Search

عظة الأحد الثّالث من زمن المجيء

وصلنا الى الأحدِ الثّالثِ من زمنِ المجيء، وهو المعروف بأحد Gaudete أي افرحوا، ولكن ما هو الفرح وما علاقَتُه بهذا الزّمن؟ الفرح المسيحي نعمة من الله، فهو من ثمار الرّوح القدس (غل5: 22)، والفرح الحقيقي هو اللّقاء مع الله، واليوم الأحد الثّالث من زمن المجيء هو أحد الفرح وذلك لأننا قد اقتربنا من لقاء الرّبّ هو الّذي افتقدنا بميلاده بيننا فافتقاده لنا هو فرح وتعزية لنا، وقراءات اليوم تتمحور حول ذلك، ففي القراءةِ الأولى المأخوذةِ من سفرِ النَّبي أشعيا سَنرى ذلكَ بوضوحٍ في قَولِهِ: “أُسَرُّ سُرورًا في الرَّبّ، وتَبتَهِجُ نَفْسي في إِلهي” (أش61: 10)، وفي المزمور المأخوذ لهذا الأحد من نشيد تعظّم هذا النّشيد المليء بالفرح، كما وسنراه أيضاً في القراءةِ الثّانية من الرّسالةِ الأولى إلى أهلِ تسالونيقي فهي تبدأ بقولها: “افرَحوا دائِماً” (1تس5: 16)، ولكنَّ المفاجأةَ بأنَّ الإنجيلَ لا يذكرُ ذلكَ، فأين الفرحُ بإنجيلِ اليوم؟ واذا كان لا يوجد فيه فرح لماذا وضعته الكنيسة؟ لمعرِفَةِ ذلك علينا أن نفهمَ النَّصَّ الإنجيليّ لهذا الأحد.

ولذلكَ يمكننا تقسيم النَّصِّ الى جزأين:

الأوّل وهو من مقدّمة إنجيل القدّيس يوحنّا ويصف لنا يوحنّا المعمدان.

أمّا الثّاني وهو مبنيٌّ على الأوّل وهو الحوار بين يوحنّا المعمدان والفرّيسيّين.

يركّز الكاتبُ الإنجيليُّ في الجزء الأوّل على كلمة ليصف بها يوحنّا المعمدان، وهي من الجذر شَهِدَ ومذكورة في هذا الجزء أربع مرّاتٍ، ولذلك يصف دارسو إنجيل القدّيس يوحنّا، يوحنّا المعمدان بيوحنّا الشّاهد وذلك لتميّزه بتلك الصّفة، ومعنى كلمة الشّاهد هو الّذي شاهدَ بعينه وعاشَ واختبر ولذلك يقول يوحنّا: “إن الذي ترى الروح ينزل فيستقر عليه، هو ذاك الذي يعمِّد في الروح القدس، وأنا رأيت وشهدت أنه هو ابن الله” (يو1: 33-34)، وهنا الشّهادة ترتبط بالإيمان فهذا ما حدث مع الجّندي الّذي طعن يسوع فيقول الكتاب “الّذي رأى شهد، وشهادته صحيحة، وذاك يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم أيضا” (يو19: 35)، فالشّهادة مرتبطة بالإيمان، فيوحنّا آمن وشهد للمسيح الكلمة، الابن الأزليّ النّور الحقّ الّذي أتى الى العالم (يو1:1-14)، فبشهادَتِهِ للنّور أصبحَ هو نوراً وبذلك يقول القدّيس أوغسطينوس في عظاته حول إنجيل يوحنّا: “هكذا كان يوحنا نورًا، لكنه لم يكن النور الحقيقي، لأنه لو لم يستنر لكان فيه ظلمة، لكنه بالاستنارة صار نوراً”. فيقول يسوع: “جئت أنا إلى العالم نورا فكل من آمن بي لا يبقى في الظلام”، فعندما أومن بالمسيح أشهد له هو النّور، وبذلك أصبِح أنا أيضاً نوراً.

وأمّا الجزء الثّاني وهو الحوار المبني على هويّة يوحنّا المعمدان، هو نعم مبنيّ على هويّة يوحنّا المعمدان ولكنّه أعمق من ذلك، يقول القدّيس يوحنّا الذّهبي الفم بأنّ سؤال الفرّيسيّين ليوحنّا ليس لمعرفة إن كان هو المسيح أو إيليّا أو حتّى النّبيّ بل لمعرفة سبب منحه المعموديّة وهذا ما يظهر من خلال انتقالهم من سؤال الى سؤال ليصلوا الى مبتغاهم ويوقعوا يوحنّا بفخّهم ولكنَّ يوحنّا بقي قوي ولم يأخذ المجد لنفسه بل اعترف بأنّه ليس المسيح بل هو شاهد له، وهو من جديد يعلن شهادته بأنّه ليس سوى سابق له ويهيئ له الطّريق وهو ليس سوى عبداً له في قوله: “لست أهلا لأن أفك رباط حذائه” (يو1: 27). (عظات القدّيس يوحنّا الّذهبيّ الفم حول إنجيل يوحنّا).

فقول يوحنّا هذا يدلّ على تواضعه الكبير والأمانة في الرّسالة الّتي أُلقِيَت له، فقد كان بإمكانه أن ينسب المسيحانيّة الى نفسه، ولكنَّه اختار أن يكون خادماً أميناً على أن يكون كاذباً، في الحقيقةِ تساءَلتُ لماذا يجيب يوحنّا بالسّؤال عنه إذا كان النّبي بأنّه ليس كذلك، فنحن نعرف أنّه نبي بل كما يقول يسوع “إنّه أفضل من نبي” (مت11: 9)، هو نعم نبي وهو يعرف ذلك ولكنّه يعرف أيضاً بأنّه ليس النّبي، فمن هو هذا النّبي الّذي يسألونه عنه؟ إن كان إيليّا أو المسيح فلماذا يسألونه مرّتَين؟، ولكن إذا عدنا الى سفر تثنية الاشتراع فيقول بتنبّؤِهِ عن موسى: “يقيم لك الرَّبُّ إلهُكَ نبيّاً مثلي من وسطك، من إخوتك، فله تسمعون” (تث18: 15)، فالنّبي هو موسى الجديد؛ ولذلك يوحنّا ليس إيليّا، وليس موسى، بل هو الشّاهد لمن سيجمع إيليّا وموسى في شخصه، أي الشّريعة والأنبياء وهو يسوع المسيح.

وهنا يوحنّا يعرّف بنفسه بأنّه “صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: قَوِّموا طَريقَ الرَّبّ، كما قال النبي أشعيا” (يو1: 23)، في رجوعِنا الى سفر أشعيا النّبي الفصل أربعين (40) يبدأ الكاتب المعروف بأشعيا الثّاني كتابه بكتاب التّعزية قائلاً: “عزّوا عزّوا شعبي يقول إلهكم” ومن ثمّ يكمل في الآية الثّالثة: “صوتُ منادٍ في البرّيّة: أعدوا طريق الرب” (أش40: 1، 3)، ففي هذا الكتاب يعلن أشعيا نهاية زمن الجلاء وبداية زمن جديد، أي نهاية زمن العبوديّة وبداية زمن الحرّيّة، وهنا يوحنّا هو الشّاهد على نهاية العهد القديم وبداية العهد الجديد مع يسوع المسيح.

والآن يمكننا الإجابة على سؤال بداية العظة وهو أين يوجد الفرح في الإنجيل؟ نرى الفرح من خلال الإيمان بيسوع المسيح والشّهادة له، فيقول البابا فرنسيس: “الشّرط للفرح المسيحي هو أن نحوِّل الاهتمام عن أنفسنا ونوجّهه نحو يسوع على مثال يوحنّا المعمدان الّذي لم يلفت الانتباه لنفسه بل ليسوع” (صلاة التبشير الملائكي الأحد 13 كانون الأوّل 2020) فاللقاء مع يسوع هو الّذي سيعكس الفرح في حياتنا.

واليوم في عالم مليءٍ بالحزن والحرب والبغض كيف سنعيش الفرح؟

عندما نسقي عَطشانَ كأسَ ماء
عندما نكسي عُريانَ ثوبَ حُب
عندما نكفكف الدموعَ في العيون
عندما نفرِشُ القلوبَ بالرجاء
عندما أُقَبِلُ رفيقي دونَ غِش
عندما تموتُ فيَّ روحُ الانتِقام
عندما يُرَمَّدُ في قلبيَ الجفاء
عِندما تذوبُ نفسي في كيانِ الله

هكذا يمكننا عيش الفرح، لأن عيد الميلاد هو عيد اللّقاء واللّقاء بالرّب يعني الفرح.

واليوم ما زال لدينا أسبوع واحد لنحضِّر أنفسَنا لنلتقي لقاءً حقيقيّاً بالرّبّ ولنعيش فرح اللّقاء.

“فافرحوا في الرب دائما، أكرر القول: افرحوا” آمين.

الطالب الإكليريكي: جريس أبو خليل
17 كانون الأول 2023

Facebook
WhatsApp
Email