Search

التراث العربي المسيحي القديم

الفصل الخامس

الهدف من دراسة التراث العربي المسيحي

من مقالات للاب سمير خليل اليسوعي مجلة “صديق الكاهن” 1983 ومجلة المسرة 76 سنة 1990 ص 160-164

ان التراث العربي المسيحي واسع جدا، كما قلنا في البداية، اذ يتضمن عشرات الآلاف من المؤلفات. وهناك سببان يدفعان الى دراسة هذا التراث، او هدفان يحثان على احيائه:

الهدف الاول: اجتماعي – ثقافي

1- مشكلة اجتماعية دينية: تمييز العروبة عن الاسلام

يقول احيانا بعض مواطنينا من المسلمين: “ان الحضارة العربية تعني الحضارة الاسلامية”. او “ان العروبة والاسلام شيء واحد! وربما اعتبر بعضهم المسيحيين دُخلاء على هذه البلاد، او اجانب، او غير عرب. وقد يوافقهم للاسف كثير من المسيحيين، ويرفضون القول بانهم عرب، فيلجأون الى القوميات الاخرى (القبطية والاشورية والمارونية الخ.). وكأن العروبة ترتبط بدين ما، او كأنها مفهوم عرقي “عصبي” (حسب تعبير ابن خلدون).

قال الدكتور طه حسين:
“ليست اللغة العربية لغة المسلمين وحدهم، ولكنها لغة الذين يتكلمونها، مهما تختلف اديانهم. وما دام الاقباط مصريين، وما دامت اللغة العربية مُقوما من مقومات الوحدة المصرية والوطن المصري، فلا بُد من ان يتثقف بها الاقباط، كما يتثقف بها المسلمون. ولا بد من ان يتثقف بها رجال الدين من الاقباط، كما يتثقف بها رجال الدين من المسلمين”.

واني افتخر بعروبتي (مؤلف المقال الاب سمير خليل)، وبالنصارى الذين سبقوا الدعوة الاسلامية والذين جاءوا بعدها. ولكني افتخر ايضا بالاسلام كمقوم من مقومات الحضارة العربية. فلست ارفض الاسلام كأهم مقوم لحضارتنا العربية، ولكني لا أُضاهي بينه وبين العروبة. ويذكرني ذلك بما كتبه ابو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ قبل سنة 846، في “الرد على النصارى”، محاولا تعليل عطف العوام على النصارى. قال:
“وعطف قلوب دهماء العرب على النصارى المُلك الذي كان فيهم، والقرابة التي كانت لهم. ثم رأت عوامنا ان فيها مُلكا قائما. وان فيهم عربا كثيرة، وان بنات الروم ولدن لملوك الاسلام، وان في النصارى متكلمين واطباء ومنجمين”.
“ومما عظمهم في قلوب العوام، وحببهم الى الطغام، ان منهم كُتّاب السلاطين، وفراشي الملوك، واطباء الاشراف، والعطارين، والصيارفة”.

وبناء على ذلك، فمن الضروري تمييز الحضارة العربية عن الحضارة الاسلامية، مهما كانت صعوبة هذا التمييز. فالحضارة العربية لست حضارة اسلامية، والا لسُميت “حضارة اسلامية”. كما ان الحضارة الاسلامية تتميز عن الحضارة العربية ، بدليل ان المسلمين العرب اقلية في الاسلام. إما الحضارة العربية اسلامية مسيحية يهودية، وان كان الطابع الاسلامي غالبا عليها. كما ان الحضارة الاسلامية عربية وغير عربية، وان كان الطابع العربي غالبا احيانا عليها.

2- هل مسيحيو الشرق عرب؟

ومن ناحية اخرى، لا بد للمسيحيين ان يتساءلوا عن رفضهم احيانا للعروبة. هل العروبة جنس او عصبية؟ ولو فهمنا العروبة بمعنى الجنسية، لما بقي احد فيها! فالمسلم المصري مثلا ليس عربيا، اذا عنينا بالعروبة العصبية والاصل، اذا هو قبطي أسلم، او غربي استوطن. ثم ان الدولة العربية، على مر العصور، لم تقم قط على اساس الجنسية، انما اختلطت فيها جميع جنسيات الشرق الاوسط والمغرب. بل ان هذا الاختلاط هو سبب ازدهار الدولة العربية في العصر العباسي الاول مثلا. فكبار المفكرين كانوا من جنسيات مختلفة، منهم العربي كالكندي، ومنهم السرياني كحنين بن اسحاق وابي بشر متى، ومنهم التركي كالفارابي، ومنهم الفارسي كابن المقفع والغزالي، وغيرهم.

ولا بد للمسيحيين من ان يتساءلوا عن سبب تسميتهم بشتى الاسماء، ما عدا الاسم الوحيد الذي ينطبق عليهم جميعا. فينتسبون الى الكنيسة القبطية، او المارونية، او الكلدانية… ولا ينتمون الى الكنيسة العربية. وكأنهم يحاولون ان ينسوا ان الاسلام موجود، وان الدعوة الاسلامية قامت في بلادنا منذ اكثر من اربعة عشر قرنا هجريا. فكل طائفة تسمى نفسها باسم سبق الاسلام.

3- الاعتزاز بالعروبة

ان ما نرمي اليه من خلال دراسة التراث العربي المسيحي، هو جعل المسيحيين يعتزون بعروبتهم ويفتخرون بتراثهم العربي. وقد يساعدهم على ذلك اكتشاف دورهم في بناء تلك الحضارة العربية، لا سيما في اهم مراحلها: في العصر العباسي الاول ببغداد، وفي مطلع القرن الثامن عشر بحلب، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر بلبنان ومصر. آليس اول من رفع شعار العروبة في القرن الماضي، ردا على النزعة التركية والسيطرة العثمانية، نصارى لبنان؟ الم يكن اول صوت دوى في ارجاء الوطن العربي صوت الشيخ ابراهيم اليازجي (1847-1906) مناديا:

تنبهوا واستفيقوا ايها العرب                     فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
“الله اكبر! ما هذا المنام؟ فقد                      شكاكم المهد واشتـاقتكـم التُـرب!
…بالله يا قومنا، هبوا لشأنكم                      فكـم تناديكم الاشعـار والخـطـب
ألستم من سطوا في الارض، واقتحموا    شرقـا وغربـا، وعزُّوا اينمـا ذهبـوا

وتلك القصيدة الشهيرة التي انشدها في اوائل سنة 1868، ولم يبلغ 21 سنة، انشدها في الجمعية السورية:

سلام ايها العرب الكرام                                وجاد ربوع فكركم الغمام
ونحن أولو المأثر من قديم                             وان جحدت مآثرنا اللئام”.

اجل! ان هناك من يحتكر لفظ العروبة، من المسلمين. فهل يحق للمسيحي رفض هذا اللفظ، بسبب جهل البعض او تعصُبهم؟

4- تكامل المسلمين والمسيحيين في بناء الحضارة العربية

كل مجتمع بشري ناهض يقوم على مُقومين: التأصل والتفتح. فالتأصل يضمن استمرارية هذا المجتمع، ويحافظ عليه خالصا من الانحراف والضياع الذاتي. والتفتح يضمن له التجدد المستمر والصلة بالعالم الخارجي. والمجمع الناهض هو الذي يجد الاتزان بين هاتين النزعتين، دون ان يُضحي بواحدة منهما. وهو ما حدث في العصر العباسي الاول، وفي عصر النهضة الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر.

ويبدو لي، من خلال دراستي التاريخ العربي، ان للنصارى والمسلمين دورين متكاملين في بناء هذا المجتمع المرموق. فعلى النصارى ان يضمنوا عامل التفتح على الحضارات الاخرى، كما فعلوا ايام العباسيين بالنسبة للحضارة اليونانية، وكما فعلوا في القرنين السابع والثامن عشر اذ اطلعوا الغرب على حضارة الشرق (العربية والسريانية، الاسلامية والمسيحية)، وكما فعلوا في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين بالنسبة للحضارة الاوروبية، وكما يفعلون اليوم (لا سيما في لبنان) بالنسبة لعالمنا المعاصر. وعلى المسلمين ان يضمنوا عامل التأصل والحفاظ على الطابع العربي الاصيل، كما فعل الصلِحون والسلفيون دائما. ومن البديهي ان هذه المسؤولية جماعية لا فردية، أي انها “فرض كفاية” لا “فرض عين”، بمعنى انها تترك لكل فرد مُطلق الحرية لاتباع ما يناسبه من التيارين.

وهناك شرط اساسي لنجاح هذا التكامل والتفاعل، وهو ان يتفتح كل واحد من الطرفين على نزعة الطرف الاخر. فمن نادى بالتفتح، وانكر التأصل في العروبة، ضر ولم يأت بشيء. ومن نادى بالتأصل، وانكر ضرورة التفتح على الحضارات الاخرى، ضر ولم يفد. وكلاهما من المتحيزين المتعصبين، اعاذنا الله من شرهما.

فلو فهم كل من المسلمين والمسيحيين دوره الخاص، واحترم الموقف الآخر المكمل له، لتوصلنا الى ذلك المجتمع العربي المنشود، مجتمع متأصل في تربته، متفتح على كل حسن من اين اتى. كما قال “فيلسوف العرب” ابو يوسف يعقوب الكندي (نحو 796-873): “ينبغي انا ان لا نستحي من استحسان الحق واقتناء الحق من اين اتى، وان اتى من الاجناس القاصية عنا والمباينة لنا”

الهدف الثاني: القيام بنهضة دينية

اذا امعنا النظر في اسباب قيام أي نهضة في التاريخ، وجدنا عاملين اساسيين: العودة الى الجذور والانفتاح على ثقافة العصر، تأصل وانفتاح. فالنهضة العباسية الكبرى تمت نتيجة لاندماج الحضارات اليونانية والسريانية والفارسية في الحضارة العربية. والنهضة الاوروبية تمت بالعودة الى الحضارة اليونانية واللاتينية القديمة، وباندماجهما في الحضارة الاوروبية المعاصرة. والنهضة العربية في القرن الماضي (ومقدمتها في نهاية القرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر) تمت ايضا بالعودة الى الحضارة العربية الاصيلة وبالانفتاح على الحضارات الاخرى، قديمة كانت او حديثة. وقد اسهم المسيحيون العرب دوما في كل نهضة اسهاما بالغا.

ونحن اليوم، في كنائسنا، بحاجة ماسة الى القيام بنهضة فكرية وروحية. وهذه النهضة لا تتم الا بالانفتاح على مطالب عصرنا من ناحية، وبالعودة الى اصولنا وجذورنا الثقافية القديمة (اليونانية والسريانية والقبطية والارمنية…) والعربية المسيحية من ناحية اخرى. وفي الواقع اننا منفتحون على عالمنا المعاصر نسبيا، وعلى الثقافات القديمة الى حد ما، غير اننا لم نكتشف بعد ثقافتنا وتراثنا العربي المسيحي. فهو الاهم لانه الاوسع والاقرب الينا ومن شأنه ان يغذينا اليوم ويحيينا.

واهمالنا هذا لتراثنا العربي المسيحي (ولتراثنا العربي اجمالا) هو في غاية الخطورة. ونتيجته ان المسيحي العربي اصبح غريبا في بلده ووطنه. فمعاهدنا اللاهوتية تدرّس لاهوتا غربيا نشأ وترعرع في بيئة بعيدة عن بيئتنا. لا بل غالبا ما يدّرس هذا اللاهوت بلغة اجنبية، كأن اللغة العربية غير صالحة للتعبير عن المفاهيم اللاهوتية المسيحية، في حين انها اعرق من اللغات الاوروبية في هذا المجال. كما ان رهباننا وراهباتنا يتكونون روحيا في كتب اجنبية وكأن تراثنا العربي خال من المؤلفات الروحية النسكية والرهبانية. فنحن إزاء عملية اغتراب فكري حقة.

ان العودة الى تراثنا العربي المسيحي لبعثه واحيائه سوف يربط الطوائف المسيحية بعضها ببعض ويعيدها الى الاصل المشترك. فالفكر المسيحي في شرقنا اليوم مشتت ومبعثر، في حين أننا بأمس حاجة الى جمع شملنا. ويا حبذا لو تسهم جميع الطوائف في احياء التراث العربي المسيحي المشترك، وفي اغناء هذا التراث العربي بترجمة ما لم يترجم من التراثات القديمة (اليونانية والسريانية والارمنية والقبطية). انها لعملية تطول وتصعب. لذلك لا بد من مباشرة العمل سريعا، اذ ان مستقبل المسيحية العربية في ايدينا.