Search

التراث العربي المسيحي القديم

الفصل الرابع

خصائص التراث العربي المسيحي القديم

مقالات للاب سمير خليل اليسوعي مجلة صديق الكاهن 1983ومجلة المسرة 67، 1981 ص 169-173

للتراث العربي المسيحي القديم عدة خصائص، نذكر منها اربعا:

1- سعة هذا التراث

لو اجرينا مقارنة تاريخية بين التراث العربي المسيحي واي تراث غربي مسيحي (الماني او فرنسي او ايطالي)، لوجدنا ان الفكر العربي المسيحي اعرق واقدم من أي فكر لاهوتي غربي. فاللاهوت العربي يبدأ في نهاية القرن الثامن الميلادي، بينما لا نجد نصوصا لاهوتية في اللغات الغربية الحديثة يرقى عهدها الى ما قبل القرن الرابع عشر. اما التراث العربي المسيحي فيبدأ في عصر “الجاهلية” مع بعض الشعراء، امثال زيد بن عدي، والخطباء، امثال قس بن ساعدة.

وهذا التراث العربي واسع اذ يشمل جميع بلاد المشرق (سورية والعراق وفلسطين ولبنان ومصر) وبعض بلاد المغرب العربي ولا سيما الاندلس (ان اقدم مؤلف اندلسي مسيحي يدعى الحفص بن ألبر القوطي الذي نظم المزامير شعرا نحو سنة 960م).

وان تعدد الطوائف المسيحية في الشرق قد جعل هذا التراث يتسع اتساعا كبيرا، اذ كانت كل طائفة تضع مؤلفات خاصة بها، بصرف النظر عما وضعته الطوائف الاخرى، حتى تتناسب هذه المؤلفات وتقاليدها وعقائدها.

وخلاصة القول ان التراث العربي المسيحي يأتي في المنزلة الثالثة من حيث سعته وضخامته، بعد التراث اليوناني والتراث اللاتيني، وقبل التراث السرياني والتراث الارمني.

والمسيحيون الشرقيون يظنون احيانا ان الفكر المسيحي الصميم يأتي من الغرب. بينما الواقع عكس ذلك تماما. فلدينا تراث عربي عريق يعود الى القرن الثامن الميلادي. وليس هناك لغة من اللغات الغربية من شأنها ان تضاهي هذا التراث العربي المسيحي تأصلا. فالتراث الديني الايطالي والفرنسي والانجليزي… الخ يعود الى القرون الوسطى، الى القرن الرابع عشر او القرن الثالث عشر فقط.

وكثيرا ما نعتمد نحن على اللاهوت الغربي في تكويننا وتنشئتنا الدينية، وننسى ان لدينا لاهوتا وقانونا كنسيا واخلاقيات وتفاسير للكتاب المقدس وترجمات لمؤلفات الآباء. وهذه كلها اقدم واعرق مما لدى المسيحيين الغربيين.

2- شمولية هذا التراث

لقد ورث التراث العربي ما سبقه من التراثات الشرقية، كاليونانية والسريانية والقبطية. فترجم اجدادنا تراثهم القديم الى اللغة العربية، كل منهم عن لغته الاصلية. فترجم الروم عن اليونانية، والسريان عن السريانية، والاقباط عن القبطية. ونجد احيانا نصا واحدا مترجما مرتين او ثلاث مرات عن لغات مختلفة. فان “ميامر” أي اقوال مار افرام السرياني مثلا، يزيد عددها على 400 ميمر، مع الملاحظة ان كل ميمر له اكثر من صيغة.

وترجم الروم اهم مؤلفات الآباء اليونانيين من امثال: يوحنا الذهبي الفم، وغريغوريوس النيصي وغريغوريوس النزينزي وباسيليوس الكبير وكيرلس الاورشليمي وكيرلس الاسكندري ويوحنا الدمشقي واثناسيوس السينائي. وقد اشتهر عندهم من النقلة: ابو فتح عبدالله بن الفضل الانطاكي وابراهيم بن يوحنا البروطوسبارطار الانطاكي وأنبا انطونيوس رئيس دير مار سمعان، وهم من القرن العاشر ومطلع القرن الحادي عشر الميلادي.

وقد ترجم السريان (المشارقة والمغاربة) اهم مؤلفات الآباء السريان من امثال مار افرام السرياني وثاودورس المصيصي المفسر ويعقوب الرهاوي واسحق النينوي وابن العبري وابن الصليبي وغيرهم.

اما الاقباط فترجموا كثيرا من الميامر النسكية والرهبانية والروحية، كما ترجموا سيَر الآباء القديسين وتواريخ البيعة من اللغة القبطية الى العربية. وقد اسهم سويروس بن المقفع اسقف الاشمونين بصفة خاصة في حركة الترجمة هذه.

لذلك نقول ان التراث العربي المسيحي يتميز بشموليته. انه لا ينحصر في بلد او طائفة، بل يشمل جميع البلدان العربية والطوائف الشرقية، وهو لا ينحصر في ثقافة معينة، بل يستقي من الثقافات السابقة، من يونانية وقبطية وسريانية وفارسية، لا بل من الارمنية واللاتينية. لذلك اصبح تراثا شاملا، متعدد الوجوه، مسكونيا.

3- الطابع المسكوني للفكر العربي المسيحي

ان التراث العربي المسيحي وحد بين المسيحيين الشرقيين.

1) اهمية اللغة العربية في توحيد المسيحيين العرب

لقد اختلف المسيحيون فيما بينهم في القرنين الرابع والخامس، وانقسموا الى طوائف مختلفة عقائديا وثقافيا. وكان المعلوم ان لهذا الانقسام اسبابا عديدة: منها سياسية، ومنها ثقافية وفلسفية.

ولقد لعبت الثقافة دورا هاما في الانقسام في القرن الخامس وما بعده، اذ كانت لكل طائفة لغة: اللغة اليونانية، واللغة السريانية، واللغة القبطية، واللغة الارمنية. وازدهرت الثقافات المحلية، واصبح المسيحيون يكتبون كل واحد منهم بلغته القومية، بعد ان كانت اليونانية هي اللغة المشتركة بينهم جميعا، وان كانوا سريانا او اقباطا او ارمن. فازدهر الفكر السرياني والقبطي والارمني، علاوة على الفكر اليوناني البيزنطي. وكانت نتيجة هذا الازدهار تلاشي الوحدة التي كانت من قبل، وانقطاع الصلة بين الفكر المسيحي الخلقيدوني والفكر المسيحي اللاخلقيدوني.

وبعد الفتح العربي الاسلامي، انتشرت العربية في الشرق الاوسط كله. فاستعرب المسيحيون في مصر وفي العراق وفي الشام، وانضموا الى المسيحيين العرب اصلا فاصبحت اللغة العربية حلقة الاتصال بين جميع المسيحيين في المشرق. كما كانت اللغة اليونانية تربط بين المسيحيين الشرقيين في القرون الاولى، فحلت العربية مكان اليونانية وربطت بين السريان والروم والاقباط وغيرهم.

وكان المسيحيون يستخدمون النصوص التي الفت في الطوائف الاخرى، بصرف النظر عن الاختلاف العقائدي، الا في اشياء بسيطة اختلفوا عليها ما بينهم، في ما يخص سر تجسد المسيح، عن الطبيعة او الطبيعتين في اقنوم المسيح. وحتى في هذه المواضيع، كان النساخ ينسخون هذه المخطوطات المخالفة لعقيدتهم، ويضيفون في الهامش ملاحظة للقارىء. يقولون مثلا: “انتبه ايها القارىء، هذه هي عقيدة المشارقة، وهي مخالفة لعقيدتنا، او “هذه هي عقيدة الروم وهي مخالفة لعقيدتنا” وهلم جرا.

وفي رأينا ان هذا كله من فضل العناية الالهية التي وحدت شمل المسيحيين بعد تفرقهم. وفي ذلك ايضا عبرة لنا. فاذا فهمنا معنى انتشار الثقافة العربية في الشرق المسيحي الذي كان مسيحيا يوما ما ثم اصبح اليوم اسلاميا، واذا فهمنا ان اللغة العربية والثقافة العربية هما اللذان وحدا المسيحيين، حتى اصبح أي نص يؤلف في بغداد مثلا يعرف بعد عشر سني او عشرين سنة في القاهرة، او بالعكس، وبات أي نص ملكي يقرأ عند السريان بعد عشر سنوات من تأليفه، فهمنا عندئذ اهمية اللغة العربية بالنسبة الى المسيحيين الشرقيين. لذلك نقول ان اللغة العربية وثقافتها هما اللذان وحدا المسيحيين.

2) كثرة المؤلفات المسكونية:

ابتداء من القرن التاسع نجد مؤلفات عديدة قد وضعت لاثبات اتفاق العقيدة المسيحية رغم اختلاف الفلسفات والالفاظ والمصطلحات. ومن بين هذه المؤلفات:

1- مقالة لطيموثاوس الجاثوليق (780-823م).
2- مقالة لنجم الدين في القرن التاسع ردا على باشوش الضرير.
3- مقالة للقس ابي علي نظيف بن يمن الطبيب الملكي البغدادي (توفى عام 990).
4- مقالة للمطران ساويرس بن المقفع اسقف الاشمونين في صعيد مصر (توفي عام 1000). 5- مقالة لعلي بن الارفادي، وهو من ارفاد بجوار حلب ومؤلف سرياني من القرن الحادي عشر.
5- مقالة لابي فرج عبدالله بن الطيب الطبيب، مدير البيمارستان العضدي في بغداد واستاذ الطب والفلسفة الارسطوطالية واكبر اطباء عصره ومن كبار فلاسفة زمانه، واكبر مفسر للكتاب المقدس، صاحب كتاب “فردوس النصرانية”، واول فقيه مسيحي، صاحب كتاب “فقه النصرانية”، وسكرتير البطريرك. (توفي عام 1043).
6- مقالة ليحيى بن جرير التكريتي السرياني (توفي نحو عام 1080).
7- مقالة مجهولة المؤلف من القرن الثاني عشر.
8- مقالة لصفي الدولة ابو الفضائل بن العسال القبطي موضوعة سنة 1236.
9- مقالة لاخيه مؤتمن الدولة ابي اسحق ابن العسال (نحو سنة 1260) في كتابه “مجموع اصول الدين ومسموع محصول اليقين”.

هذه هي المؤلفات المسكونية التي وُضعت حتى القرن الثالث عشر. وكان مؤلفوها كلهم يرددون الفكرة نفسها: ان المسيحيين متفقون في الايمان مختلفون في الالفاظ. يقول علي بن الارفادي: “مثل النصارى كمثل ثلاثة اشخاص يصعدون جبلا عاليا. كل منهم يريد الوصول الى القمة، وكل منهم يصف الجبل من وجهة نظره. فهو يصف الجبل، الا انه لا يصف الا جزءا او ناحية منه. فالقمة هي المسيح. ونحن كلنا متجهون نحوه، ونفهم ناحية منه فقط، ولا يمكننا حصر مفهوم المسيح كله. ولكن اذا اعترفنا ان ما نراه وما نصفه ما هو الا ناحية واحدة من المسيح، واعترفنا ان ما يقوله غيرنا صحيح، اتفقنا في الرأي رغم اختلاف ما نقوله عن المسيح”.

4- التراث العربي المسيحي يشتمل على فكر لاهوتي وُضع في بيئة غير مسيحية

هذه الميزة الرابعة وقد تكون اهم خصائص هذا التراث، فهي ان التراث العربي تراث وضع في بيئة اسلامية.

ان الفكر العربي المسيحي هو الفكر المسيحي الوحيد في العصور الوسطى الذي عُني، حين وضع بغير المسيحيين من مسلمين ويهود. فان هذا التراث قد يكون الفكر المسيحي الوحيد الذي عبر عن ايمانه في بيئة غير مسيحية، وحاول ان يقدم مفهوم الايمان المسيحي لغير المسيحي. 

معنى ذلك ان المسيحي (امس واليوم) عندما يخاطب مسيحيا اخر، او عندما يؤلف كتابا لاهوتيا، لا يستطيع ان ينسى اننا نعيش في بيئة غير مسيحية وان علينا ان نعبّر عن ايماننا بطريقة يفهمها غير المسيحي.

فضلا عن ان المسلمين كانوا دوما يطالبون المسيحيين بتبرير ايمانهم، لا سيما اذا كانت هناك صداقة بين المسيحيين والمسلمين، على نحو ما كانت عليه الحال في العصر العباسي عندما كان المسيحيون يلعبون دورا هاما في بناء الحضارة العربية. فاضطروا الى عرض ايمانهم للمسلم باساليب مفهومة، تعتمد اساسا على العقل (لا سيما على منطق ارسطو وفلسفته)، ثم على النقل (الكتاب المقدس واقوال الآباء)، واحيانا على القرآن الكريم وعلى الاخبار والاحاديث. كما نرى ذلك في مؤلفات ابي الفرج عبدالله بن الطيب وايليا النصيبي وغيرهما. اما اذا تصفحت كتب اللاهوت الغربية، فانك تجدها تعتمد دائما على الاصول المسيحية (الكتاب المقدس والآباء)، وتضيف احيانا الى ذلك ادلة عقلية.

والبيئة التي عاش فيها المسيحيون ساعدتهم على التفكير، وعلى التعمق في ايمانهم، لان المسيحيين العرب كانوا (ابتدأ من القرن العاشر) اقلية في البلاد العربية. ويقال (حسب تقدير بعض المستشرقين) ان عددهم في القرن العاشر لم يتجاوز عشرين في المئة، بينما لا يتجاوز اليوم عشرة في المئة. فاضطروا الى ان يستعملوا سلاحا واحدا في علاقاتهم مع غير المسيحيين، وهو سلاح الفكر. وكانوا ائمة الفكر في العصر العباسي الاول لانهم تثقفوا بالثقافة اليونانية والسريانية والفارسية، والعربية بالطبع. فكان لهم آفاق لم تكن لغيرهم من المفكرين، او قل لاغلبية المفكرين الآخرين. فكانوا من ناحية اقلية عددا، وهم ائمة الفكر ثقافة.

فالمسيحي العربي لا يستطيع ان يفهم معنى التوحيد والتثليث، كما يفهمه المسيحي في الغرب. فعندما، على سبيل المثال، نرسم اشارة الصليب، نقول: “بسم الآب والابن والروح القدس الاله الواحد. آمين”. اما في الغرب فيقولون: “بسم الاب والابن والروح القدس. آمين”، ولا يقولون “الاله الواحد”. فلماذا نضيف نحن “الاله الواحد”؟ لاننا مطالبون بالشهادة عن التوحيد، علينا ان نتأكد ونؤكد لغيرنا اننا موحدون، وان الثالوث لا يناقض التوحيد. وهكذا نجد دوما في التراث العربي المسيحي فكرا مسيحيا معبرا عنه باساليب مفهومة لدى اليهودي والمسلم. هذا هو التراث الوحيد في العصور الوسطى الذي وُضع للمسيحيين ولغير المسيحيين على السواء.

ولاهمية هذا الموضوع، اخذ بعض الباحثين في دراسة هذا اللون من اللاهوت وحصر المؤلفات الدفاعية. وفي رأينا، هذه هي اهم مميزات التراث العربي المسيحي، وهي التي جعلته هاما في التراث المسيحي العالمي. ان لكل ثقافة دورا في العالم. اما الثقافة العربية المسيحية، فدورها ان تسهم في الفكر العالمي بتقديم هذه النظرة.