Search

التراث العربي المسيحي القديم

الفصل الثالث عشر

دراسات حول بعض اللاهوتيين العرب

(1) البطريرك النسطوري طيموتاوس الاول

(من دراسات طلاب: اعداد الشماس ابراهيم الشوملي).
(من كتاب احوال النصارى في خلافة بني العباس” د. جان موريس فييه، ص 74-75)
(من كتاب تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية” للاب البير ابونا، الجزء الثاني ص 129-138).
(من المحاضرة السابعة للاب سمير خليل في المعهد الاكليريكي الاورشليمي في بيت جالا).

يعتبر طيموتاوس الاول ابرز شخصية قامت في كنيسة المشرق في العهد العباسي الاول. فهو الادار المحنك والعالم والسياسي المرن. شمل نشاطه مختلف الاصعدة الدينية والمدنية. ومهما اختلفت الآراء حول طريقة بلوغه السدة البطريركية في كنيسة المشرق، فهو سيظل علما من اشهر اعلام هذه الكنيسة. فقد عرف ان يبلغ بكنيسته الى اوج مجدها وازدهارها، وان يذود عنها في الفترات الصعبة التي حاول فيها البعض ان يثيروا عليها عواصف المحن والاضطهادات. وكثيرة هي المصادر القديمة والحديثة التي تناولت حياة هذا البطريرك العظيم ونشاطه الداخلي والخارجي.

مولده وثقافته:

ولد طيموتاوس في بلدة الحزة الواقعة في مقاطعة الحديب، منطقة اربيل شمال الموصل، من عائلة مرموقة وذلك عام 727 او 728. لا تتوفر لدينا معلومات دقيقة حول نشأته الاولى. تولى تهذيبه عمه كيوركيس الذي كان يدعى ايضا بجورج اسقف بيت بجاس او بغاش، اعتنى به منذ نعومة اظفاره. فارسله الى مدرسة باشوش. وكان مدير هذه المدرسة مار ابراهيم بن بسانداد الملقب بالاعرج، وهو من مشاهير علماء عصره. وعلى ابراهيم تخرج طيموتاوس وايشوع بن نون الذي سيخلفه في البطريركية، وكذلك ابو نوح الانباري الذي اصبح بعدئذ امين سر حاكم الموصل، والذي سيدعم البطريرك طيموتاوس بما له من سلطة عند الخليفة. وكان ابراهيم هذا الاستاذ الكبير، يُدرس، بالاضافة الى العلوم الدينية من تفسير الكتاب المقدس والليترجيا فلسفة ارسطو، ويدرب تلاميذه على قراءة الآباء اليونان وترجمت كتاباتهم الى السريانية، وكان يعود الى النص الاصلي بلغته الاصلية. وكذلك تعلم طيموتاوس فن الترجمة بالاضافة الى اللغة العربية واليونانية. واخذ يدرس الطب والمنطق على يد علماء من الرهبان. تبع معلمه ابراهيم عندما فتح مدرسة جديدة في مرجا، ولا يستبعد ان يكون قد ذهب الى دير مار جبرائيل في الموصل.

اسقف بيت باجاس:

في الوقت الذي الذى انهى فيه طيموتاوس دروسه، ونال قسطا وافرا من العلوم، عاد الى عمه الطاعن في السن، الذي اراد الاستقالة ليعين مكانه طيموتاوس. الا ان متروبوليت اديابن الذي يدعى ماران كان مترددا، في بادىء الامر. ولكن كيوركيس افلح في اقناعه والتأثير عليه بواسطة اصدقاء طيموتاوس، ولا سيما ابو نوح، فقبل المتروبوليت ذلك على مضض. واقيم طيموتاوس اسقفا على بيت باجاس حوالي سنة 769/770، والشئ الوحيد الذي نعرفه من هذه الحقبة هو ان حاكم الموصل، موسى بن مصعب عامله كصديق واعفاه من دفع الضرائب.

انتخابه بطريركا:

كان انتخابه للبطريركية طويلا وعسيرا، بالنظر الى اختلاف اراء الناخبين، والى كثرة المتنافسين على هذا المنصب. كان الخليفة المهدي في اوساط سني خلافته عندما توفي البطريرك حنانيشوع سنة 778/779 ، مسموما. وحسب العادة الجارية، دعا اسقف كشكر الى عقد مجمع انتخابي. فاجتمع الآباء في دير مار فنيون في بغداد. وتقدم الى خلافة البطريرك المتوفى خمسة مرشحين: الراهب جيورجيس الذي لم يوفق في المرة السابقة، وتوما اسقف كشكر مدير البطريركية الشاغرة، وافرام مطران عيلام، الاول في الرتبة بين المطارنة، وايشوعياب اسقف نينوى، واخيرا مطران مغمور من بعض ابرشيات الاطراف التابعة لحدياب، وهو طيموتاوس اسقف بيت باجس او بغاش.

واستطاع طيموتاوس بمختلف الوسائل ان يقنع الناخبين باختياره، فاقنع اولا ايشوعياب بسحب ترشيحه بعد ان اقنعه انه كبير السن ليحمل هذه المسؤولية، ووعده بان يعينه متروبوليت حديب اذا وافق. اما جيورجيوس او (كيوركيس) الراهب الذي كان مرشحا للمرة السابعة ومرشج الاساقفة في كشكر ونصيبين، فقد وافاه الاجل قبل بلوغ الخبر اليه. اما افرام العيلامي، فلم يحضر لا هو ولا الاساقفة التابعين له.

وكان توما اسقف كشكر ايضا يحظى بتأييد مناصرين اقوياء، الا ان طيموتاوس افلح في اقناع الاركذياقون بيروي مع التلاميذ الكثيرين، واعدا اياهم بمبلغ دسم اذا انتخبوه، فادخلهم الى بيته، واراهم اكياسا مملؤة حصى وحجارة واوهمهم انها دراهم ووعدهم باعطائها لهم اذا صوتوا له. وقد نجح في حيلته هذه، وتم انتخابه بطريركا في نهاية سنة 779 او مطلع سنة 780، بعد 18 شهرا من موت البطريرك السابق. وفي 7 ايار 780، سيم بطريركا في المدائن، وحينما انحى البعض بالائمة على البطريرك الجدي لكونه ابتاع البطريركية بالسيمونية اجابهم: “اني لم اشتر البطريركية، اذ لم يكن في الاكياس سوى حصى، وكان بالاحرى على الذين انتخبوني بدافع المال ان يخجلوا من عملهم هذا. (راجع ابن العبري، ت.ك. 2/170).

الا ان عواصف المعارضة ثارت ضد البطريرك الجديد. فتزعم يوسف مطران مرو الحزب المناوىء، وانضم اليه عدد من الاساقفة، ورسموا رسطم اسقف حديثة على كرسي اديابن مكان ايشوعياب الذي عينه طيموتاوس بعد ايام من رسامته ايفاءا بوعده. وعقد الحزب المناوىء لطيموتاوس مجمعا في دير الطين (بيت حالي) القريب من حديثة الموصل، وحرم البطريرك طيموتاوس واقاله، وعين عوضه الراهب كيوركيس. ولكن هذه المؤامرة لم تدم فقد توفي الراهب كيوركيس في اللحظة التي ارادوا ان يرسموه فيها. وسليمان الحداني احد معارضي طيموتاوس استقال وانعزل في دير ربان هارون. ورسطم متروبوليت حيداب الجديد سقط عن الفر ومزقته الكلاب في لحظة دخوله الابرشية. اما يوسف مروي فهو الوحيد الذي عاند امام محاولات الصلح مع طيموتاوس. فاضطر هذا الى عزله وتعيين شخص يدعى غريغوريوس عوضا عنه مطرانا لمرو.

وحادثة يوسف هذا عكرت علاقات طيموتاوس بالخليفة المهدي. فقد كان يوسف هذا خطيبا مشهورا بالعربية والفارسية، ولما تنكر طيموتاوس لوعوده من بعد انتخابه، انضم يوسف الى المتمردين الذين رسموا بطريركا منافسا في دير الطين بالقرب من حديثة دجلة، فحرمهم طيموتاوس من شركة المؤمنين. ويقول ابن العبري ان يوسف هذا قد قبض عليه متلبسا باعمال غير اخلاقية، عندئذ لم ير المذنب الا حلا واحدا لمشكلته، فاشهر اسلامه بين يدي المهدي الذي استعمله على بعض اعمال البصرة.

ولما اراد تسويغ اسلامه امام الخليفة اطلق الاتهام الذي اصبح، لسوء الحظ، كلاسيكيا: “النصارى يدعون ليل نهار لانتصار الروم”. كان هذا الكلام يساوي، في ظروف الحرب الدائرة انذاك، اتهاما بالخيانة. في البداية حمل الخليفة الامر على محمل الجد، وهدد بالقضاء على النصارى. من حسن التوفيق ان الطبيب عيسى لم يكن بعيدا عن مجرى الاحداث، فاجاب الخليفة فورا: “الروم يكرهوننا اكثر من اليهود”.

وقف المهدي متحيرا بين هذين القولين (وهذا مما يشرفه)، واحب ان يقف على حقيقة الامر: ما كانت علاقة النساطرة بالروم؟ طرح السؤال على بطريق شريف كان اسيرا عنده. فلم يترك جوابه مكانا لادنى ريب: “يكاد ان لا يكونوا نصارى. وهم الى العرب اقرب منهم الينا”، يعني ان تمييز النساطرة وجهين في ذات المسيح يلغي الام الاله وامومة مريم للاله، ويجعل موقفهم ادنى الى عقيدة المسلمين.

من بعدما اخفق يوسف في الهجوم العام، اراد ان يوقع بطيموتاوس الذي كان قد كذب عليه، فدبر يوسف مكيدة منمقة: رسالة مزيفة من البطريرك الى قيصر الروم تقول: “ان العرب ضعاف، فاغزهم تنتصر”. وقد خبئت الرسالة مع شيء من الذهب في موضع يسهل اكتشافه لدى اية مصادرة. ولكن الحيلة لم تنطل على الخليفة. لم يبق يوسف المرتد كثيرا في وظيفته بالبصرة بل هرب ولحق بالروم حيث ارتد الى النصرانية في ما يروى” (من كتاب احوال النصارى في خلافة بني العباس” د. جان موريس فييه، ص. 74-75).

ولكن المعارضة لم تنته. فقد اقبل افرام متروبوليت عيلام (جنديسابور) الى بغداد، فجمع سينودس اخر بمشاركة ثلاثة عشر اسقفا في دير بتيون، في الاسبوع الثالث من الزمن الاربعيني سنة 781، الذي اقال وحرم مرة اخرى البطريرك طيموتاوس. فدعى طيوتاوس بدوره الى سينودس اجتمع فيه خمسة عشر اسقفا، فحرم افرام ومناصريه.

هكذا طال الخلاف نحو سنتين بعد موت حنانيشوع الثاني، وعم الاستياء بين المؤمنين وطلبت هذه الجماعة النسطورية المنقسمة بهذه الصراعات تدخل بعض النبلاء المتنفذين، امثال عيسى ابي قريش طبيب الخليفة المهدي، وابي نوح الانباري الذين توصلوا الى المصالحة بين طيموتاوس وافرام. ورضي البطريرك طيموتاوس بان يتم تنصيبه ثانية بين يدي افرام. وجرت الحفلة في كنيسة العباد، في بغداد. ويقول ماري ان افرام تأثر جدا بتواضع البطريرك فركع امامه. اذ ذاك انهضه طيموتاوس وعانقه، وهكذا تمت المصالحة وعاد السلام الى الكنيسة النسطورية بعد الانقسام الذي دام اكثر من سنتين.

البطريرك

تلاشت المعارضة وحل السلام في كنيسة المشرق، وعكف البطريرك الجديد، طوال اكثر من اربعين سنة، على ادارة شؤون الكنيسة، تحت حكم خمسة خلفاء متعاقبين. وعرفت الكنيسة في عهده فترة هدوء وازدهار وامتداد نحو الخارج قلما عرفت لها مثيلا واقام البطريرك علاقات حسنة مع المسلمين ومع سائر الفئات المسيحية، واكتسب احترام الجميع لحسن ادارته ولعلمه الغزير. وبالرغم مما يقوله ماري من ان “طيموتاوس لم يكن يقدر ان يخطب بحضرة الناس”، فانه يعود ويقول: “له رسائل في كل فن وكتاب الكوكب” (ماري “كتاب المجدل” ص. 74).

البطريرك طيموتاوس والخليفة المهدي (775-785)

كان المهدي ذا طبع بشوش وسخي. فقد اتخذ تجاه المسيحيين عامة موقف التعاطف، بسبب ثقته بعلمائهم واطبائهم من بينهم عيسى ابا قريش. وكان الخليفة نفسه يميل الى العلم والشعر والفلسفة والموسيقى. واذ كان طيموتاوس ضليعا بالفلك والفلسفة، فقد كلفه الخليفة بترجمة “طوبيقا” لارسطو من السريانية الى العربية، ووضع فيه ثقته كلها. وكثيرا ما كان الخليفة يدعوه الى البلاط للمناقشات العلمية او الدينية مع الفلاسفة الاخرين. واحيانا كان النقاش يدور بين البطريرك والخليفة ذاته حول مختلف الشؤون الدينية: الثالوث – المسيح – المعجزات – النبؤات التي رافقت وهيأت التجسد – سلطة محمد والقرآن – جريمة اليهود – البحث عن الحقيقة الخ… وقد نُشر نص النقاش او المحاورة التي دارت بين المهدي وطيموتاوس وفيها تظهر حرية كبيرة في تبادل الافكار والطاقات الفكرية والسياسية الكبيرة لدى طيموتاوس وموقف الخليفة المتسامح المنفتح. ويقول طيموتاوس في احدى رسائله: “ان هذا الامر (أي مواجهات الخليفة) كان يجري دوما، تارة لشؤون الدولة، وطورا لمجرد محبة الحكمة المتقدة في نفسه (أي نفس الخليفة)، فهو في الواقع لطيف، ويحب ان يتعلم الحكمة التي يلقاها عند الاخر”. وقد افلح طيموتاوس في الحفاظ على صداقة الخليفة. وبالرغم من تقلباته المفاجئة والدسائس التي حاكها ضده بعض من المسيحيين، امثال يوسف مطران مرو السابق ، فكان ثمة من يهدىء الخليفة في هذه العواصف ويوقفه على دخائل الامور: عيسى ابو قريش.

موت طيموتاوس وخليفته:

على عمر 95 سنة وبعد ان شغل منصب البطريرك مدة 43 سنة توفي طيموتاوس الكبير سنة 823 بعد فترة وجيزة من عودة المأمون الى بغداد. توفي في دير الكليليو الذي رممه بنفسة واتخذه مقرا له ليكون في بغداد. وبعد عام كامل من الانتظار انتخب بطريركا مكانه ايشوع بار نون الذي قال فيه طيموتاوس انه احق الناس بخلافته.

كان لطيموتاوس الفضل في ارسال المرسلين ليس فقط الى ايران، ولكن الى افغانستان والصين والهند. وبفضله انتشرت الكنيسة النسطورية المشرقية في الشرق الاقصى.

اعمال طيموتاوس الاول: العالم والاداري والسياسي

(من كتاب “تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية” للاب البير ابونا، الجزء الثاني ص. 129)

١. طيموتاوس العالم

في تلك الحقبة التي نشطت فيها حركة الترجمة والتي لعب فيها الكُتّاب والمترجمون والاطباء المسيحيون دورا بارزا في نقل العلوم اليونانية الى العرب، يُعتبر طيموتاوس ابرز شخصية قامت في كنيسة المشرق في العهد العباسي الاول. فهو الاداري المحنك والسياسي المرن وواحد من كبار علماء عصره. كان يجيد اللغات والعلوم المدنية والدينية، فلم تشغله مهامه الرفيعة في الكنيسة عن توسيع آفاقه العلمية، بل امتدت حتى شملت شتى الاصعدة. وقد ترك لنا مؤلفات كتابية وقانونية ولاهوتية وطقسية، فضلا عن 200 رسالة لاهوتية كتبها الى رهبان وغيرهم. الا ان معظم هذه الكتابات قد اتى عليها الزمن، ولم يبق منها سوى القليل.

أ) رسائله

مجموعة من مائتين رسالة في مجلدين لم يبق منها سوى ٥٩ رسالة في مخطوطة دير السيدة بالقرب من القوس (وهي المخطوطة 509، حسب الترقيم الجديد للمخطوطات الموجودة في دير الابتداء للرهبان الكلدان في الدورة-بغداد) التي ترقى الى ما قبل القرن الرابع عشر. وجاءت هذه الرسائل بغير ترتيب وبدون تاريخ يتيح لنا التعرف الى احداث كنيسة المشرق. وهي تتطرق الى مواضيع عديدة، خاصة فلسفية ولاهوتية وجدلية وقانونية وراعوية. الرسالة رقم ٥٩ تستحق الاهتمام لانها عبارة عن حوار مع الخليفة المهدي.

وقد قام اشخاص كثيرون بدراسة هذه الرسائل عامة او بعض منها بصورة خاصة، ونشروا بعضا منها، ومنهم العالم الالماني براون، وبطريرك الكلدان السابق روفائيل بيداويد في مجموعة “دراسات ونصوص”، عدد 187، فاتيكان 1956).

ب) كتبه

*العلوم: كتب كتاب حول النجوم الا انه اختفى من الادب السرياني.
*الرعويات: مجموعة من الكرزات والاناشيد لكل ايام الآحاد والاعياد.
*اللاهوت: مقالة ضد مجمع خلقيدونيا، تفسير اللاهوتيين وهو عبارة تفسير لما قاله غريغوريوس النازيتري ولكن كل هذه المؤلفات مفقودة.
*الحق القانوني: له 98 قانون ترجموا الى اللاتينية وطبع ايضا النص السرياني. تُرجم الى اللغة العربية، وهذه الترجمة تكمل النقص في المخطوطة السريانية. الترجمة تعود الى بداية القرن الحادي عشر عن طريق ابو الفرج بن الطيب.

لم يبق لنا من الكتب التي وضعها سوى كتابين. فلم يصلنا كتاب الكواكب، ولا كتاب الاسئلة، ولا تفسير اللاهوتي الذي يبدو انه تفسير لكتابات القديس غريغوريوس التريتري، ولا الكتاب الاخر الذي يتناول “المواعظ والانشودات في اعياد الرب على مدار السنة الليتورجية”.

اما كتاب “المجلدات المحمعية”، فربما جُمع في عهده. وقد وصلتنا منه بعض انشودات ليتورجية وكتاب في الاحكام الكنسية الذي يتطرق الى المواضيع الكنسية وفي الزواج والارث الخ…

ج) الترجمات

كانت الفلسفة اليونانية قد دخلت مدرسة الرها منذ القرن الخامس، ولا سيما المنطق، وتُرجم معظم كتب اورغانون ارسطو الى السريانية، وبالاخص “طوبيقا” والتحليلات الثانية والشعر والفصاحة. ولم تكن هذه الكتب قد تُرجمت الى العربية حتى زمان طيموتاوس الاول. فطلب الخليفة هارون الرشيد الى طيموتاوس ان يترجم كتابات ارسطو الى العربية. واستعان هذا بفرقة من اصدقائه الذين يجيدون اليونانية والسريانية، او اليونانية والعربية. وشرعوا ينقلون الى العربية مباشرة او من خلال ترجمة سريانية كثيرا من هذه الكتب. وكان من بين الذين ساعدوا الجاثليق ابو نوح الانباري والبطريرك الملكي. وقال طيموتاوس عن ترجمة كتاب “طوبيقا”: “ان كتاب طوبيقا لارسطو الفيلسوف طلب منا بامر ملكي بان نترجمه من السريانية الى لغة العرب. وقد تحقق الامر بعون الله وبتعاون الاستاذ ابي نوح”. وترجم طيموتاوس ايضا التحليلات الثانية وكتاب الشعر وكتاب الفصاحة لارسطو. ويبدو ان الخليفة فضل ترجمة طيموتاوس على غيرها، لوضوحها ودقتها…

وهكذا، فقد ترك لنا طيموتاوس كترا نفيسا في كتاباته. ولا يتردد ماري في ان يسميه “عالما وملفانا”. ويقول صليبا: “انه كان عالما فاضلا حيولا في الامور… وكان مكرما عند الخلفاء والملوك لكثرة علمه وفضائله وحسن اجوبته عن المسائل التي كانوا يرمون عليه”.

٢. الاداري الحكيم

ادرك طيموتاوس ان اهم عنصر للاستقرار في كنيسة المشرق ولازدهارها يكمن في حسن اختيار رؤسائها وتهذيب كهنتها وصفات اساقفتها. وكان هذا الامر خير وسيلة لكسب اعتبار السلطة الحاكمة نفسها: ان يكون المؤمنون، ولا سيما الاكليروس، على مستوى رفيع من الثقافة والادب. وكان الاحترام الذي حظي به في البلاط العباسي يرتكز على شخصيته الفذة وعلى معرفته للعلوم اليونانية ولعلم الفلك.

أ) تثقيف الاكليروس

عرف طيموتاوس ان العلم خير وسيلة للمسيحيين لكي ينتزعوا احترام الناس لهم. لذلك فقد بذل جهودا جبارة في سبيل تثقيف الاكليروس في كنيسة المشرق. ونلاحظ هذا الاهتمام من خلال رسائله التي معظمها موجه الى صديقه سركيس. فاذ كان مدبرا لمدرسة باشوش، كان طيموتاوس يحرضه دوما على الاهتمام بالطلاب، وعلى بذل جهوده في صعيدي العلم والفضيلة، والا ينسى ان هدف جميع الدراسات هو ملكوت الله. وحينما اصبح سركيس متروبوليتا لعيلام، في سنة 795، فتح هناك مدرسة بيت لافاط. فكتب اليه البطريرك يوصيه بالاهتمام بمدرسة ابرشيته ويقول: “اذكر ان عليها ان تلد وتهذب ابناء الكنيسة”. ثم يقول له مرة اخرى: “اعتن بالاخوة الدارسين مثل حدقتي عينيك، وحرضهم على تلقي العلم الصحيح ومخافة الله، وانت ذاتك اعط المثل في جميع الفضائل”. ولا يكتفي بابداء النصح والارشاد، بل ساعد بنوع فعال في تنظيم المدرسة المادي وفي حسن ادارتها، وفي تزويدها بمستلزمات الدراسة والمعيشة.

ب) تعيين الاساقفة

عرف طيموتاوس ان حيوية الكنيسة منوطة بغيرة رؤسائها وبقداسة حياتهم وبوحدتهم مع الكرسي البطريركي. وفي سبيل الوصول الى اختيار رؤساء ذوي صفات وكفاءات عالية، لا يتردد البطريرك احيانا في تعيين اشخاص جديرين بالمناصب الهامة في الكنيسة، متجاوزا بذلك رأي المؤمنين والاجراءات القانونية، كلما دعت الضرورة الى ذلك. فهو يدعو الى ان ينال المتروبوليتون الرسامة من البطريرك، اما الاساقفة الذين يُُرشحون برضاه في مختلف المناطق، فعليهم ان يأتوا لاحقا عند البطريرك لينالوا منه رتبة الكمال أي التثبيت.

وما يقتضيه طيموتاوس من طاعة المتروبوليتين والاساقفة تجاه البطريرك، يقتضيه ايضا من المؤمنين والكهنة تجاه رؤسائهم الروحيين المحليين. فهو يحرض سكان عيلام على الطاعة لمتروبولتيهم سركيس، ويهدد بانزال العقوبات الكنسية الصارمة بكل كاهن او مدرس او مؤمن تسول لنفسه العصيان على اوامر رؤسائه المحليين.

ج) الحفاظ على وديعة الايمان القويم

ان وحدة الكنيسة ترتكز على وحدة المعتقد فيها. وقد حاول البطريرك ان يتغلب على تيارات مناوئة ظهرت في عهده، وكانت – حسب منظوره –تهدد وحدة الايمان في كنيسة المشرق. اول معضلة واجهته كانت معضلة التجسد. وكان همّ طيموتاوس ان يحافظ على الطابع الخاص بالالوهية وبالناسوت في المسيح. فبالرغم من تأكيده ان ثمة اتحادا حقيقيا وطبيعيا اقوى من اتحاد النفس بالجسد، فهو يرفض التحدث عن اتحاد اقنومي، او ان يُقال ان الله وُلد وتألم ومات، او ان يُدعى “خادما” او ان يُقال ان ناسوت المسيح استطاع ان يرى لاهوته. وفي رسالة وجهها الى رهبان دير مار مارون، يشرح طيموتاوس ارثوذكسية كنيسته، ويقول اذا حفظت، منذ عهد الرسل، “جوهرة الحقيقة” سليمة دون زيادة او نقصان، وذلك لأن هذه الكنيسة لم تكن تحت سلطة ملوك مسيحيين اخضعوا كنيسة الغرب لتعسفهم الديني. فان كنيسة المشرق، بالرغم من الازمات والاضطهادات وعدد الشهداء، ظلت امينة تجاه الحقيقة، وذلك قبل ظهور نسطوريوس وبعده.

لقد قيل الكثير عن اقرار طيموتاوس باولوية الكرسي الروماني. الا ان النصوص التي ينسبونها اليه بهذا الشأن ليست واضحة، كما يدعي البعض، وكثيرا ما حمّلوها اكثر مما احتوته من المعاني والابعاد. فان كتابات طيموتاوس كلها تشير الى ان جميع القضايا العقائدية والمسلكية تعود اليه مباشرة، وبان كرسيه يحظى باستقلال ذاتي ولا يبدو متعلقا برئاسة عليا اخرى. الا ان تمسكه بارثوذكسية كنيسته لم يمنعه من ان يكون له افكار واسعة حول مفهوم الوحدة في الكنيسة الجامعة، وحول امكانية التعددية فيها، اذ كان للبطريرك طاقة خارقة للتوافق او الانفتاح. وهو يرى ان الفروق الطفيفة القائمة بين مختلف فئات المسيحيين يجب الا تكون عائقا في سبيل وحدة القلوب بشأن ما هو جوهري للخلاص.

د) مفهوم السلطة

مارس طيموتاوس سلطته بنوع ثابت، بل مستبد احيانا. وقد تجلى ذلك، كما قلنا سابقا، في تعيين المتروبوليتين. وهو لا يخشى مجابهة ذوي النفوذ من مؤمنيه، حينما يرى مخالفاتهم. فلا يتردد مثلا في حرم الطبيب جبريل بن بختيشوع بسبب تسريه، وفي مقاومة اطماع بعض الاساقفة ومؤازريهم، ويحرص على ان تقدم الشكاوي عنده وليس امام القضاة المسلمين.

ويمارس طيموتاوس هذه السلطة على كلا الصعيدين الاداري والعقائدي، حينما تقتضي الامور توضيح نقطة او تصحيح امر خاص بالمعتقد. وهو في ذلك يستند دوما الى سلطة المجامع والقوانين الكنسية، ولا ينسى ان موقفا مستبدا وصرامة مفرطة يفضيان غالبا الى المقاومة والمعاندة. ولذلك يتجلى بكثير من الفطنة والمرونة حينما اقتضى الامر ذلك. ولا يتردد في استشارة الاخرين فيما يخص ادارة الكنيسة وتعيين رؤسائها. وعرف ان يقرن الصرامة بالتواضع والسلطة بالخدمة. وهذا ما يتجلى بوضوح في تعيين ايشوع بن نون خلفا له، بغض النظر عما كان بينهما من الخلاف.

٣. القانوني المحنك

ان تعايش المسيحيين والمسلمين سيطرح معضلات على الصعيد القانوني. فكان يترتب على رؤساء كنيسة المشرق ان يهتموا بها ويحاولون معالجتها. ثم ان الارتباط الوثيق في الاسلام بين الدولة والدين سيؤثر في حياة الكنيسة على الصعيد القانوني، فالجاثليق يُعتبر الرئيس الروحي والمدني لطائفته، والمسؤول، في بعض الاحيان، حتى عن دفع الضرائب. وهو يتلقى شهادة رسمية من الخليفة تعترف بشرعية رئاسته، ويصبح هو والاساقفة حكاما في الشؤون الدنيوية. فاضطر الاساقفة الى سن القوانين توضح كيفية تصرفهم في الشؤو القضائية.

وكان ايشوعيخت، متروبوليت فارس، قد وضع اول بحث شامل في الحق المدني في عهد حنانيشوع الثاني (+ 779). وقد ترجم كتابه، على طلب طيموتاوس الاول، من البهلوية الى السريانية.

ويذكر عبديشوع الصوباوي (في مجموعة القوانين المجمعية) ان طيموتاوس عقد مجمعين عامين: الاول سنة 790، والثاني سنة 804. وقد ورد نص المجمع الاول كملحق لمجموعة السنودوسات الشرقية، ابتداء من مجمع اسحق سنة 410 حتى مجمع حنانيشوع الثاني سنة 775. ويقول يوحنا شابو، ناشر هذه المجموعة، في المقدمة، ان هذه المجموعة كتبت في نهاية القرن الثامن، أي في السنين الاولى لبطريركية طيموتاوس. ومع ذلك فان المقررات المجمعية لطيموتاوس الاولى لسنة 790 لا ترد في هذه المجموعة. فبسعنا القول اذن ان المجموعة تكونت بين سنة 775 و 790. لذا فمن المحتمل جدا ان يكون طيموتاوس هو الذي اخذ المبادرة في جمع هذه القوانين وضمها في كتاب يُعتبر كترا نفيسا لدراسة حياة كنيسة المشرق (راجع مخطوطة 509 في دير الرهبان الكلدان في بغداد).

فيبدو اذن ان المجمع الذي عقده طيموتاوس سنة 790 – والذي اضيف الى سلسلة المجامع الشرقية – ليس سوى اعلان رسمي للقرارات المتخذة سابقا في مجمع سنة 781، والتي أُرسلت على شكل رسالة في السنة عينها الى افرام متروبوليت عيلام الذي لم يشأ الحضور في انتخاب طيموتاوس. وكان هذا المجمع الاول يهدف الى ازالة كل خلاف بين الجاثليق الجديد وخصومه وتجنب كل انفصال كان يهدد كنيسة المشرق.

ويقول صليبا ان طيموتاوس “وضع باجتماع الاباء ثمانية وتسعين قانونا في الفرئض والاحكام وفي كل قانون منها مسألة وجواب. وهذه المجموعة من القوانين المنسوبة الى طيموتاوس، والتي تضم في الواقع 99 قانونا، عرفت نجاحا كبيرا في القرون اللاحقة، بفضل الترجمة العربية التي حققها لها ابو الفرج ابن الطيب في القرن الحادي عشر، حينما شرعت اللغة السريانية تفقد مكانتها المرموقة. وتنقسم المجموعة الى ثلاثة اقسام: يتطرق القسم الاول الى الرئاسة الكنسية، والثاني مخصص بالزواج، ويتناول الثالث الارث.

وفي قوانين اخرى يتطرق طيموتاوس الى الحق القانوني الكنسي فيما يخص انتخاب البطريرك ومكانته، وحقوق المتروبوليتين والاساقفة والتزاماتهم، ثم يتناول المحاكم الكنسية وواجب المسيحيين في اللجوء اليها وليس الى المحاكم الغربية لحسم التراعات فيما ينهم.

وحتى من خلال جميع هذه القوانين نلاحظ اننا امام شخصية عظيمة ورئيس همام منتبه الى احتياجات جماعته المسيحية التي يريد قيادتها في سواء السبيل والذود عنها وعن كيانها واستقلالها الروحي.

٤. انفتاحه على الكنائس الاخرى

كانت في بغداد وفي مناطق اخرى ضمن حدود كنيسة المشرق جماعات مسيحية اخرى لها تاريخها ورئاستها الخاصة ومعتقدها. فكيف كانت علاقات طيموتاوس بهذه الكنائس غير النسطورية؟

عجزت الاضطهادات التي شنها برصوما النصيبني على المنوفيزيين، في نهاية القرن الخامس، عن القضاء عليهم. اذ سرعان ما عادوا وكونوا جماعاتهم حول المركزين الرئيسيين لهم: في دير مار متى الواقع في سفح جبل الالوب (مقلوب) وفي تكريت. وقد ساعدتهم الظروف في عهد كسرى الثاني ليحققوا انتشارا واسعا ويشكلوا ابرشيات عديدة داخل حدود كنيسة المشرق. حتى ان ابن العبري يتكلم عن تكوين 12 ابرشية حينما جرى انتخاب ماروثا متروبوليتا لتكريت.

وبعد استيلاء العرب المسلمين على المدائن واعلانهم الاسلام دين الدولة، تم نوع من التقارب بين النساطرة والمنوفيزيين. وقد علمنا ان الجاثليق النسطوري يعقوب الثاني (754-773) والبطريرك الموفيزي جرجس (758-790) مع بطريرك انطاكيا الملكي، وُجدوا في السجن معا في عهد الخليفة المنصور. واذا بالمشاحنات بين النساطرة والمنوفيزيين تنقلب الى مفاوضات سلمية. فاعاد نساطرة نصيبيين الى المنوفيزيين كنيسة دومطيانوس الكبرى. ونال اسقف الطبرهان النسطوري صليبا زخا السماح ببناء كنيسة نسطورية في تكريت ذاتها سنة 767.

وقد استمر هذا التفاهم الاخوي بين الفريقين في عهد طيموتاوس الاول. ونجد في رسائله مقاطع عديدة تشير الى موقف البطريرك من المنوفزيين. فبصفته رجل علم، لا يميز بين النساطرة والمنوفيزيين والملكيين. فانه في ترجماته لكتب ارسطو من السريانية الى العربية يلتجىء الى مساعدة ابي نوح الانباري، كما يتعاون مع ايوب الملكي، ويلتمس من الربان فنيون ان يذهب الى دير مار متى لتحقيق بعض النصوص والمفردات في مخطوطات هذا الدير. ويذكر دير مار متى مرات عديدة في رسائله كمركز هام للمنوفيزية والعلم. وقد طلب مرات كثيرة الى صديقه سركيس – وكان ما يزال مديرا لمدرسة باشوش – بان يذهب الى دير مار متى ويبحث في مكتبته عن مخطوطات لكتابات الآباء وللتحقيق في بعض الترجمات.

اما موقف طيموتاوس تجاه المسيحيين الاخرين، بصفته رئيسا لكنيسة المشرق، فانه موقف متشدد يهدف الى الذود عن ارثوذكسية كنيسته والدفاع عنها وعن تعاليمها. ولكن هذا الموقف لا يحول دون رغبته الصادقة في احترام المذاهب الاخرى وفي الوحدة المسيحية. ويقول لنا ابن العبري انه جرى جدال بين طيموتاوس والبطريرك المنوفيزي جرجس. الا ان هذا الجدال قد ضاع. وقد عبّر طيموتاوس عن موقفه الانفتاحي حينما اقرّ ان سوريا (أي منوفيزيا) او ملكيا، عند عودته الى كنيسة المشرق، يجب الا يُعمد من جديد، لان الجميع يعتمدون باسم الثالوث، بالرغم من الاختلافات الاخرى. 

هل كان للجاثليق النسطوري السلطة على جميع المسيحيين في بلاد المشرق؟ هذا امر لا يمكننا البت فيه في عهد طيموتاوس. انما اخذت هذه السلطة الشاملة بالظهور منذ عهد الجاثليق ابراهيم الثالث (1050-1090)، وفي المرسوم الذي اصدره له الخليفة القائم بأمر الله، حيث جاء: “اوعز (الخليفة) ترتيبك جاثليقا لنسطور النصارى في مدين السلام والاصقاع وزعيما لهم والروم واليعاقبة طرا ولكل من تحويه ديار الاسلام من هاتين الطايفتين ممن بها يستقر واليها يطرأن وجعل امرك ممتثلا…”.

وكان انفتاح طيموتاوس يشمل العالم الواسع الذي اراد تبشيره. فالكنيسة في عهده لم تكن منكمشة على ذاتها وضائعة وسط اكثرية مسلمة، بل كانت كنيسة تتدفق حيوية ونشاطا رسوليا. فامتدت الى مختلف الجهات، الى الهند والصين واليمن والى المناطق المجاورة لبحر قزوين. الا ان هذه الشعلة الوهاجة اخذت تخبو بعد وفاة طيموتاوس فتقلص حقل الرسالة الخارجية، لأن خلفاءه لم يتميزوا وغيرته العارمة، ولم يدم عهد كل منهم سوى سنين قلائل.