Search

التراث العربي المسيحي القديم

الفصل الثاني والعشرون

دراسات حول بعض اللاهوتيين العرب

(10) غريغوريوس – ابو الفرج ابن العبري (1226-1286)

اولا: حياة ابن العبري

1- مولده:

وُلد ابن العبري في ملطية، وهي ولاية ديار بكر، عاصمة أرمينيا الصغرى، سنة 1226. ونال في العماد اسم يوحنا. واتخذ اسم غريغوريوس يوم رُسم اسقفا سنة 1246. اما اسمه الكامل فهو ابو الفرج جمال الدين مار غريغوريوس ابن تاج الدين هارون بن توما الملطي. انتمى الى اسرة عريقة في المسيحية والشرف، وكان ابوه هارون طبيبا عالما، وجيها في قومه، نافذ الكلمة في اهل بلده. وكان شماسا في الكنيسة السريانية اليعقوبية.

كان لهارون اولاد نجباء هم مخائيل وموفق ودمنيا ويوحنا (غريغوريوس) وبرصوم. والظاهر انهم توفوا جميعا قبل غريغوريوس، ما عدا برصوم الصفي الذي كان شماسا لاخيه، ثم خلفه على كرسي المشرق سنة 1288، وظل يشغل هذا المنصب حتى وفاته في 1 من كانون الاول سنة 1307. ونشير هنا الى ان برصوم انجز ترجمة حياة اخيه واكمل التاريخ الكنسي الذي بدأه غريغوريوس وتوقف عنه سنة 1285، فاكمله اخوه حتى سنة 1288.

اما عن لقب ابن العبري، فيقول المستشرقون ان اباه كان يهودي الاصل اهتدى الى النصرانية فلقب بابن العبري وانتقل هذا اللقب الى اولاده. الا ان البطريرك اغناطيوس افرام الاول برصوم، دحض مقال المستشرقين موردا بيت شعر قاله ابن العبري عن نفسه: “اذا كان سيدنا المسيح سمى نفسه سامريا فلا غضاضة عليك ان دعوك ابن العبري، لأن مصدر هذه التسمية نهرالفرات لا دينا معيبا ولا لغة عبرية”. فالارثوذكس عامة ينكرون هذا التعديل ويقولون ان هذا اللقب اطلق على العائلة لولادة احد آبائها او لاولادة هارون نفسه في اثناء عبور نهرالفرات. اما بولس بهنام مطران بغداد السابق فيربط بين قرية كبيرة تسمى “عبر” من اعمال جوباس، وملطية موطن غريغوريوس ابي الفرج فيقول: جلا جد ابي الفرج عن هذه القرية الى ملطية، الا ان اسم القرية لاحقه فبقيت النسبة في احفاده.

2- حداثته

عكف ابن العبري منذ حداثته على الدراسة والحفظ والتحصيل، فاحب العلم والثقافة منذ نعومة اظفاره، فدرس على اساتذة مهرة واتقن اللغة السريانية، وطقوس الكنيسة، وقرأ الطب على ابيه فتعلم منه شيئا كثيرا، وكذلك على غيره من اطباء العصر المشهورين. واشتغل ايضا بالفلسفة واللاهوت فدرس مبادئهما على يد والده وحصل على الكثير وهو لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره. 

ظهرت علامات النبوغ والعبقرية على يوحنا في شتى العلوم واتقن خمس لغات هي السريانية واليونانية والعربي والفارسية والارمنية. ولكن الكوارث التي حلت ببلده اضطرته الى الانقطاع عن التحصيل. فقد هجم المغول في صيف 1234 على ملطية واستولوا عليها، فهاجر معظم سكانها الى سوريا ونزح هارون مع اسرته الى انطاكية وكانت آنذاك في يد الصليبيين، فلما وصلوا اليها اعتزل ابن العبري العالم وتنسك في احدى المغاور المجاورة. الا ان علمه وفضيلته وتقواه لفت له الانظار، فاستدعاه البطريرك اغناطيوس سابا الثالث وصرفه عن حياة العزلة هذه، فطلب اليه متابعة تثقفه علميا وروحيا ليستعد لخدمة الكنيسة والمجتمع. وهكذا ذهب ابو الفرج الى طرابلس مع رفيق له يدعى صليبا، فتابع دراسة الطب والبيان والمنطق على عالم من علماء النساطرة اسمه يعقوب.

3- الاسقف غريغوريوس

في سنة 1246 دعا البطريرك اغناطيوس (1222-1252) غريغوريوس ورفيقه، فرسم صليبا اسقفا على كنيسة عكا، وغريغوريوس اسقفا على ابرشية جوباس الصغيرة في منطقة ملطية وهو لم يتجاوز العشرين عمره لذكائه وحكمته وروحانيته. ولم تمض سنة حتى نقله البطريرك الى لاقبين في المقاطعة نفسها.

توفى البطريرك اغناطيوس سابا وخلفه ديونيسيوس عنجور (1252-1261)، الذي تحزب له ابن العبري على خصمه ابن المعدني. فنقل ديونيسيوس ابن العبري الى كرسي حلب، الا ان هذه المدينة كانت موالية لابن المعدني فرفضت قبول الاسقف الجديد. حينئذ اضطر غريغوريوس الى الذهاب الى دير مار برصوم واقام عند بطريركه سنتين، ثم قصد دمشق فنال حظوة عند الملك الناصر فرفع مكانته واعاده الى كرسيه مكرما. واستفاد ابن العبري من هذه الفترة من حياته فاكب على المطالعة واتم دروسه الفلسفية واللاهوتية واحكم اللغة العربية، وبدأ يستعد لحقبة جديدة في حياته.

ومن ثم عاد الى حلب بعد ان تحسنت علاقاته بابن المعدني سنة 1258. وبقي فيها زهاء اثنتي عشرة سنة، فتح فيها كنوز علمه، وكان مثالا للراعي الصالح. ولكن حدثت في تلك السنة الغزوة المغولية التي ضربت بغداد وقوضت الدولة العباسية وزرعت الدمار في بلاد العراق وبعض اطراف الشام. وذهب ابن العبري لملاقاة هولاكو ليستعطفه على شعبه، غير ان شفاعته لم تقبل، واقتحم جند المغول المدينة فاسروه واعملوا السيف في رقاب سكان حلب المدينة المنكوية من مسيحيين ومسلمين على حد سواء. ولكنه في الاخير نال حظوة لدى هولاكو نفسه، نظرا الى مهنة الطب التي كان يتقنها، وكان يشاهد في بلاط هولاكو وهو يقابل بالاحترام والتقدير.

4- مفريان المشرق

قتل البطريرك ديونيسيوس في كرسيه سنة 1261، ولم يعش البطريرك ابن المعدني بعده طويلا فلحقه سنة 1263، وكان، قبل وفاته، قد اختار ابن العبري ليحل محله في مفريانية المشرق. ولما خلفه اغناطيوس الثالث يشوع في كرسي البطريركية سنة 1264، اقر اختيار ابن العبري. وجرت حفلة التنصيب بأبهة فائقة في مدينة سيس بحضور الملك هايتوم الارمني وعظماء بلاطه، مع اساقفة اليعاقبة واساقفة الارمن في 19 من كانون الثاني سنة 1264.

لا يخفى على القارىء ان رتبة المفريان هي الرتبة الثانية في الكنيسة السريانية، وصاحبها يأتي مباشرة بعد البطريرك، وله السلطة على الاساقفة في مفريانيته. اما مفريانية المشرق فكانت تشمل الناحية الشرقية من بلاد الرافدين والعراق العجمي ومنطقة أشور، أي كل ما كان يدخل سابقا في المملكة الساسانية، فهي رعية واسعة جدا ومنتشرة في مناطق شاسعة.

اخذ المفريان الجديد يجوب انحاء رعيته وظل على هذا المنوال 22 سنة، يعمل بغيرة ونشاط واخلاص. تنقل بين نينوى ودير مار متي وبغداد والموصل ومراغة وتيريز، وكان يتفقد المؤمنين ويشجعهم. ومر في بغداد مرتين ولاقى اكراما لدى جثالقة الشرق، وزار تكريت سنة 1277 بعد ان مر فيها التتر، فاحدثت زيارته فرحا عظيما لمدينة لم تحظ بزيارة مفريان منذ ستين سنة.

دير مار متى كان مقراً لإقامة بعض مفارنة المشرق منذ القرن الثاني عشر وما بعده منهم العلامة إبن العبري 1286+ الذي أقام فيه سبع سنين.

وزار هولاكو، الملك التتري، فحظي بعطفه ونال منه ثلاث براءات: واحدة له، وواحدة للبطريرك، وثالثة لاسقف قيسارية قبادوقية (في تركيا) اليعقوبي. وسهر على استتباب الامن والراحة بين ابناء الرعية، وانشأ الكنائس والاديرة، وقد اهتم بكنيسة برطلة وهو في اواخر حياته سنة 1285. ويروي في تاريخه الكنسي انه اقام خلال حياته اثنى عشر اسقفا ممن تميزوا بالفضيلة والعلم. ولم يقتصر نشاطه على ابناء رعيته، بل اتصل بالمسيحيين من مختلف المذاهب من روم وارمن ونساطرة. واتصل كذلك برجال الدولة المسلمين وبأرباب العلم والثقافة، فكثر اصدقاؤه في الاوساط المختلفة.

ومع كل هذا النشاط، لم يأل ابن العبري جهدا في الاطلاع على خزائن الكتب والمحفوظات في الاديرة والمعابد. واستفاد خصوصا مما وجده في مدينة مراغة، من اعمال اذربيجان، من وثائق ستساعده على تدوين كتبه التاريخية.

5- وفاته

ظل ابن العبري على هذا المنوال في نشاطه حتى مرضه في 28/7/1286، فانتابته حمى شديدة، وكطبيب عرف بانها النهاية، لذلك رفض تناول الادوية التي وصفها له الاطباء، وبصوت خافت هادىء قال لهم: “لا فائدة من الادوية، لان الاوان قد حان للانتقال من هذا العالم”. وحاول ان يكتب وصيته الا ان قواه خانته، فلم يقو على كتابة كلمة واحدة، لذا استدعى احد تلاميذه، واملى عليه وصيته بالآية المقتبسة من سفر المزامير “الانسان مثل العشب ايامه وكزهر الحقل هكذا ينمو”. وبعد ان انهى وصيته قال لتلاميذه: “اوصيكم يا احبائي، ان يحب بعضكم بعضا، فالمحبة يا اولادي، رباط السلام، ساغدركم الى دار الخلود واحظى برؤية الرب واصلي من اجلكم”. واغمض عينيه واسلم الروح ورأسه في حضن اخيه برصوم، وكان ذلك يوم الثلاثاء في 30 من تموز سنة 1286 في مدينة مراغة، وكان فيها مار يبلاها الثالث، جاثليق النساطرة التتري الاصل، فرأى ان يقام لابن العبري جنازة فخمة، فشارك فيها الروم والارمن فضلا عن اليعاقبة. ووضع جثمانه في مذبح كنيسة السريان في مراغة، ثم نقل فدفن في دير مار متي، وهو لا يزال هناك الى يومنا هذا موضع اكرام وتقدير.

ثانيا: منزلته العلمية

(من مقال للاب سهيل قاشا: “المفريان غريغوريوس يوحنا ابن العبرية ومنزلته العلمية”، المسرة، سنة 1966، ص. 32).

جاء على لسان مؤلف ترجمة حياة ابن العبري المطران ابو نصر البرطلي ، قوله: “ان رفع رأسنا بعد ان كنا ذليلين، ومنح المشرق الحكمة والعلم بعد ان كانت كنيسته صفرا من ذلك، وصار تلامذته ملافنة وعلماء في بلادنا، ونشر الايمان موعظة في مدننا وقرانا” .

و هكذا تفتخر الكنيسة السريانية بابن العبري، كما تفتخر الكنيسة الغربية بتوما الاكويني. يقول العلامة اوجين بوري (Eugène Boré): “يظهر لنا ابن العبري تحت هذا المصباح كأنه مقدمة لتوما الاكويني، بل هناك مقارنة مذهلة بين مؤلفات ابن العبري وبين الموسوعة اللاهوتية التي كتبها توما الاكويني”. 

بلغ ابن العبري شأوا عاليا في ميادين المعرفة، وسبر اغوار الحكمة العميقة، وصال وجال في ساحات العلوم الفلكية والرياضية واروقة الفكر الفلسفية واللاهوتية، وخفايا التاريخ الكنيسي والمدني. وبذا اكتسب وبحق منزلة علمية لم يكتسبها احد قبله ولا بعده من السريان الا القلة النادرة.

يقول العلامة فنسنك (Wensinck) الالماني: “ظهر ابداع ابن العبري في جميع علوم عصره، واستطيع ان اطلق كلمة بحق هذا الرجل وهي: انه علامة عصره” . ولقد أُعجب المستشرقون المهتمون بالدراسات السريانية بنبوغ ابن العبري وعبقريته، فلقبوه بدائرة معارف القرن الثالث عشر.

ونقلت الينا دائرة المعارف بانه: “اشتغل بالعلوم اللاهوتية والرياضية والفلسفية على بعض مشايخ اليعقوبية في انطاكية. وبرع في كل ذلك حتى قيل انه لم يكن له نظير من اهل عصره” 

فلو غامرنا وتشجعنا في اقتحام خزانات المكتبة العالمية لوجدنا ابن العبري قد سبقنا اليها بما اغناها من مجلدات ورسائل وكتب في كافة جوانب الفكر الانساني. فقد درس مختلف العلوم، ولم يدع شيئا الا وكتب فيه حتى جاءت مؤلفاته كأنها موسوعة عصره، اضافة الى درسه العلوم اليونانية القديمة وهضمها جيدا، فلقد اخذ ما راق له وابعد تلك التي اعتبرها غير مجدية.

ثالثا: آثار ابن العبري

يقول السمعاني: “لم يكف ابن العبري عن القراءة والكتابة منذ العشرين وحتى نهاية حياته”. وكتاباته خير شاهد على علمه الشامل الذي تطرق الى كل فروع المعارف البشرية، وقد أحصى منها اخوه برصوما 31 كتابا وصل الينا اكثرها واهمها:

أ- الآثار الفلسفية

كانت الفلسفة الجامعة على الطريقة الارسطاطالية سهلة المنال مستقرة المقام بين المسيحيين ابناء اللغة السريانية، كما كان مفكرو المسلمين يأخذون بها امثال الفارابي وابن سينا وابن رشد. وجاء ابن العبري فكان وريث ثقافة مزدوجة، فألف في العربية والسريانية. 

وكان ابن العبري ملمّا بكل فروع الفلسفة، من طبيعيات، ومنطق، وتصوف، واخلاق. واظهر براعته في هذه المواضيع، وخلّف كتبا عديدة معتمدا على كتب فلاسفة اليونان، ومنقولات السريان والعرب وتفاسيرهم. واخذ في فلسفته طابعا ارسطيا خالصا، خاليا من الشوائب التي اضيفت اليه في ما بعد. وكان ابن العبري في هذا المجهود الكبير معتمدا على نفسه، وكانت رغبته الحصول على فلسفة ارسطو، وفعلا توصل الى هدفه هذا، فقد ابعد الاضافات التي الحقها به الشراح، معتمدا على الكتب المترجمة، والكتب الاصيلة، فكان في موسوعته الفلسفية متميزا عن سائر فلاسفة السريان والعرب.

مؤلفاته الفلسفية التي وصلت الينا:

(1) رسالتان في النفس دبجها في العربية:

الاولى مقالة “مختصرة في النفس البشرية”، نشرها الاب لويس شيخو سنة 1898، ويبدو ان ابن العبري اقتدى فيها برسالة سريانية بالعنوان نفسه للكاتب السرياني موسى بركيفا الذي نقل بدوره عن كتاب يوناني عنوانه “في النفس البشرية لططيانس” نُسب خطأ الى القديس غريغوريوس العجائبي. 

والرسالة الثانية “مختصر في علم النفس الانسانية”، نشرها القس بولس سباط في مصر سنة 1928، فجاءت في 74 صفحة، وقد ألفها ابن العبري بناء على طلب ديونيسيوس عنجور، اسقف ملطية قبيل سنة 1252، ووصلت منها نسخة نفيسة، انجزت في اواخر القرن الثالث عشر او اوائل القرن الثاني عشر، الى يد البطريرك اغناطيوس برصوم فنشرها في “المجلة البطريركية” ثم على حدة في حمص سنة 1938.

(2) الاحداق:

كتيب في المنطق والفلسفة لا تتجاوز صفحاته الاربعين، ألفه بعد سنة 1275 فجاء في سبعة ابواب مبنية على اورغانون ارسطو. نعرف منه ثلاث نسخ، واحدة في جامعة روكفلر بشيكاغو، كتبت سنة 1290، وثانية في لندن (رقم 1017)، وثالثة في كمبريدج (رقم 2005)، والاخيرتان تعودان الى سنة 1579، وهناك ايضا نسخة في البطريركية السريانية الارثوذكسية، وثانية في دير الشرفة.

يحتوى هذا الكتاب سبعة فصول ومقدمة وهي:
1. في الايساغوجي
2. في المقولات
3. في القياس
4. التحليلات الاولى
5. في الطوبيقا
6. في التحليلات الثانية
7. في الرد على السفسطة.

(3) حديث الحكمة: 

كتاب صغير يتضمن اربعة ابواب:
1. المنطق، 2. الفيزياء او الفلسفة الطبيعية، 3. الربوبية او واجب الوجود، 4. الاخلاق او بحث في الذات والنفس والقضاء والقدر ونظام العالم. نشرت منه مقاطع مجلة المعهد الطبي العربي في دمشق، ونشره سنة 1940 البطريرك برصوم عن ترجمة عربية عُملت بعد زمن المؤلف بمدة يسيرة وجاءت نسختها من سنة 1608.

(4) زبدة الحكمة:

وهو اجمل ما خرج من يد ابن العبري، واهم كتاب فلسفي تركه لنا. يقع كتاب زبدة الحكمة في مجلدين من 951 صفحة ولا يزال مخطوطا. للمجلد الاول نسختان قديمتان، الاولى في فلورنسا (عدد 186)، وتعود الى سنة 1340، وقد خطها القس الراهب نجم، والثانية في اكسفورد (هونت 1)، خطها الراهب القس يوسف الكردي سنة 1498، واربع نسخ حديثة في كندناط (بلاط الكلابار) وحلب ودير السيدة (خُطت سنة 1818) وبرمنغام. وللمجلد الثاني نسختان قديمتان الاولى خُطت على عهد على عهد المؤلف وقد نقلت في اواخر سنة 1285 واوائل سنة 1286، وهي موجودة في الخزانة البطريركية للسريان الارثوذكس، والثانية موجودة في خزانة آمد الكلدانية، ونسختان حديثتان، واحدة في الخزانة البطريركية واخرى في برمنغام.

يتطرق المجلد الاول الى العلم المنطقي الفلسفي وفيه تسعة كتب:
1. كتاب ايساغوجي او المدخل،
2. كتاب قاطيغوريا “المقولات العشر” كالجوهر والعرض،
3. كتاب بريرنياس أي العبارة،
4. كتاب الانالوطيقي الاول وهو تحليل القياس،
5. كتاب الانالوطيقي الثاني أي البرهان،
6. كتاب الطوبيقي او ديالقطيقي وهو الجدل،
7. كتاب السوفسطيقي أي المغالطة او الحكمة المموهة،
8. كتاب ريطوريقي أي الخطابة،
9. كتاب فوايطيقي أي الشعر.

اما المجلد الثاني فهو يتطرق الى الطبيعيات وفيه جزءان.
الجزء الاول ثمانية كتب:
1. كتاب السماع الطبيعي، ويُعرف بسماع الكيان، يتضمن خمسة ابواب وفيه تعريف بالامور العامة لجميع الطبيعيات (او الفيزياء) مثل المادة والصورة والحركة الطبيعية والاسباب والنهاية وغير النهاية وتعلق الحركات والنهاية الى محرك اول واحد غير متحرك وغير متناهي القوة لا جسم له ولا هو في الجسم.
2. كتاب السماء والعالم، يتضمن خمسة ابواب وفيه تعريف باحوال الاجسام، وبالعناصر الاربعة وحركاتها ومواضعها، وبالحكمة في صيغتها وتفصيلها.
3. كتاب الكون والفساد، فيه اربعة ابواب يشرح فيها حال الكون والفساد والتوالد والنشوء والاستحالات، وبين عدد الاجساد القابلة لهذه الاحوال.
4. كتاب المعادن، فيه يذكر حال الكائنات الجمادية وما في المعادن والجبال والينابيع وحركة الارض ووضع المسكونة.
5. كتاب الآثار العلوية ويسمى مترولوجيا، يتضمن اربعة ابواب وفيها يتكلم على الاحوال التي تعرض في العناصر الاربعة وتأثير السماوات والشهب والغيوم والصواعق والرياح والزلازل والبحار والجبال.
6. كتاب النبات، في اربعة ابواب، يبحث عن الكائنات النامية.
7. كتاب الحيوان، بابوابه الستة، وفيه بعرف طبائع الحيوان وحال الكائنات الحيوانية.
8. كتاب النفس، في اربعة ابواب وهو يشتمل على معرفة النفس والقوى الداركة والمحركة التي في الحيوان وخصوصا في الانسان.

الجزء الثاني من المجلد الاول ويتضمن خمسة كتب:
1. في الفلسفة،
2. العلم الالهي ويسمى ايضا ما بعد الطبيعة وهو القسم النظري،
3. الايثيقيون، أي كتاب الاخلاق او الحكمة الخلقية وهو القسم العلمي،
4. الاقتصاد او تدبير الذات والمنزل،
5. السياسة اي سياسة المدن.

5) كتاب “تجارة التجارات” او الفوائد في المنطق والفلسفة:

وهو مجلد يختصر كتاب زبدة الحكمة، وضعه المؤلف قبل سنة 1276 وبقيت لنا منه ست نسخ اقدمها خُطت في 20 من ايار سنة 1276. قيل ان هذا الكتاب نُقل الى العربية الى السريانية، والامر يحتاج الى دليل. ونشير هنا الى ان ابن العبري نقل من العربية الى السريانية كتاب الاشارات والتنبيهات في المنطق والفلسفة وما وراء الطبيعة لابن سينا، اجابة الى رغبة القس سمعون آل توما الشرقي، رئيس اطباء الملك هولاكو، كما نقل كتاب زبدة الاسرار في الفلسفة لاثير الدين الابهري المتوفى سنة 1264، ولكن هذا الكتاب مفقود.

ب- الآثار اللاهوتية

كان ابن العبري اسقفا ورئيس اساقفة، وكان اول همه تثقيف كهنته ورهبانه ليعلموا بدورهم الشعب المؤمن. لهذا صرف معظم وقته في تدبيج الكتب اللاهوتية، فتطرق الى الكتاب المقدس، والى ما نسميه اللاهوت النظري او التعليم في العقيدة، والى ما نسميه اللاهوت الادبي أي التعليم في الاخلاق والمسلك المسيحي والنسكيات.

(1) مخزن الاسرار:

مجلد ضخم فسر فيه ابن العبري اسفار العهدين القديم والجديد وفرغ من تدوينه سنة 1278. هذا المصنف لم يزل مخطوطا، نشر منه المستشرقان سبرنكلن وغراهام المجلد الاول الذي يبدأ بسفر التكوين وينتهي بسفر صموئيل الثاني فجاء في393 صفحة بحجم كبير. ولقد طبع كذلك كيتش وبرنستين المقدمة وبعض الشروح لمقاطع من سفر ايوب في مختارات سريانية، وكان قد سبقهما العلامة يوسف شمعون السمعاني فنشر مقتطفات ونقلها الى اللاتينية. ثم ان الطلاب الجامعيين الالمان درسوا مخزن الاسرار، ونقلوا بعض اجزائه الى اللاتينية او الى الالمانية بشكل اطروحة دكتورا. ونذكر على سبيل المثال ان لارساو عُني في ليبزيغ بشرح الفصلين الاولين من سفر التكوين، وان كلامروث اهتم باعمال الرسل والرسائل الكاثوليكية، وان شوارتز درس انجيل يوحنا، وسبانوث انجيل متى.

هذا الكتاب الذي سخر له ابن العبري علمه بأسره تناول اسفار العهد القديم كله، القانونية الاولى والقانونية الثانية، واسفار العهد الجديد، ولم يستثن منها الا سفر الرؤيا لان التقليد السرياني لم يجعله في رتبة سائر الكتب القانونية.

في هذا الكتاب الذي تعددت نسخاته المخطوطة فانافت على العشرين، عاد ابن العبري الى السبعينية والبسيطة وافاد من الحرقلية والهكسبلة واستشهد بالارمنية والقبطية ليضبط النص الذي يفسر، فشرح الآيات مستندا الى تفاسير الاقدمين امثال اوريجانس المصري واساوبيوس القيصري، واثناسيوس الاسكندري وافرام السرياني وغريغوريوس النازينزي وفيلوكسينوس المنجي وسويروس الانطاكي وغيرهم. غير انه لم يقرأ مباشرة هذه النصوص بل وجدها في شراح السريان السابقين. وهنا نشير الى ان ابن العبري يقف على مفترق طريقين: الطريق النسطورية من تيودور بركوني واسكولياته التي جمعها في نهاية القرن الثامن، الى المسائل المختارة لاييسوع برنون (+828) الى ايشوعداد المروزي وحنافيشوع برسومشويه، الى الشرح المجهول الاسم، الى جنة الاطياب، والطريق السريانية ابتداء من تيودور المبسوطي وفيلوكسينس المنجي (+523) الى يعقوب الرهاوي (+ 708) وموسى بركيفا وديونيسيوس الصليبي.

شرح ابن العبري الكتاب المقدس شرحا لفظيا ولغويا، وهذا ما نسميه المعنى الحرفي، وشرحه شرحا روحيا ورمزيا فاكتشف في نصوصه المعنى النهائي للكتاب وهو يسوع المسيح وكنيسته.

(2) منارة الاقداس:

موسوعة كبيرة تحتوي عرضا شاملا للتعاليم الارثوذكسية، وسيوجزها ابن العبري في كتاب الاشعة. اما نحن فنتحدث عن منارة الاقداس.

هذا الكتاب الذي ذكره السمعاني في حديثه عن المكتبة الشرقية الفاتيكانية وصل الينا في مخطوطات عدة توزعت بين الشرق والغرب. الاول مخطوط الفاتيكان (عدد 168) يعود الى القرن الرابع عشر وهو افضل المخطوطات التي نقلت الينا منارة الاقداس لكتابته الواضحة ونصه الصحيح الذي لا تشويه فيه. الثاني مخطوط برلين (رقم 190) الذي دونته يدان مختلفتان واحدة سنة 1430، واخرى سنة 1693، فجاء قريبا من مخطوط الفاتيكان. ودون مخطوط فلورنسا في عمودين (سنة 1387) بخط جميل مع بعض الكلمات المشطوبة والتصحيحات. ويعود مخطوط كمبريدج بانكلترا الى القرن الخامس عشر وهو يرتبط بمخطوط فلورنسا والاخطاء مشتركة ما بينهما. والخامس مخطوط باريس (رقم 210) يعود الى سنة 1404، كتب بخط كبير واضح. تشوهت بعض كلماته فحاول احد النساخ تصحيحها في ما بعد (سنة 1587). يرتبط مخطوط باريس في بعض عناصره بالفئة الاولى الممثلة بمخطوط الفاتيكان ومخطوط برلين، وفي بعضها الآخر بالفئة الثانية الممثلة بمخطوط فلورنسا وكمبريدج. ويجدر القول انه منه انطلقت الترجمات العربية لمنارة الاقداس في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

هذا في الغرب، اما في الشرق فهناك مخطوط دير القديس مرقس باورشليم القدس الذي دُوّن سنة1590، فجاء ببعض مواده قريبا من مخطوطي الفئة الاولى، ومخطوط مطرانية السريان الارثوذكسي في بيروت الذي يعود الى القرن الرابع عشر ومخطط الحسكة في الجزيرة الذي يعود الى سنة 1405.

نقل كتاب منارة الاقداس الى العربية الشماس سرجين ابن الاسقف يوحنا بن غرير الدمشقي وتوزعت نسخاته على المكتبة الوطنية بباريس (سنة 1656) والمكتبة البودلية في اوكسفورد (سنة 1656) ومكتبات لندن وكمبريدج، والشرفة الشرقية في لبنان.

تتألف منارة الاقدس من اثني عشر ركنا او بابا، وكل باب يتضمن فصولا واقساما.

الباب الاول: العلم بوجه العموم وفيه فصلان، يتطرق الى امكانية اقتناء العلم والفصل الثاني الى المنطق. بعد مقدمة دوّنها ابن العبري فأبان فيها ان عصره يستخف بالايمان الحق والعلم الحق، يعلن هو ان هذا ما دفعه الى جمع تعاليم الفلسفة والعلوم والطبيعة في موسوعة ونقدها وتمحيصها بطريقة فلسفية. اما هدف الباب الاول فهو القول بان قمة الكمال هي عند الانسان، الكائن العاقل الباحث عن العلم الذي نقتنيه عن طريق الحواس والعقل. ويورد ابن العبري الشواهد المأخوذة من الكتاب المقدس والآباء المعلمين من يونان وسريان. وبعد ان يرسم صورة عن الانسان المثالي يرد على اعداء الحكمة وعلى الرافضين حقيقة العلم بواسطة الحواس والعقل.

ويصف الكاتب في الباب الثاني العالم كما خلق في ستة ايام. عاد ابن العبري الى الآدب السرياني من خلال تعليم موسى بركيفا عن الستة اياما فاستقى المادة اللاهوتية. واستند الى الفكر اليوناني فقرأ ارسطو عند السريان والعرب، ولم ينس كتبا مثل تاريخ الهند للبيروني، ومروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعودي، وتقويم البلدان لابي الفداء. في الفصل الاول يعالج قضية العالم الازلي ويعتبر أنه مرتبط بالزمن، وفي الفصل الثاني يتطرق الى زوال العالم، وفي الفصل الثالث يعدد الخلائق التي كونها الله.

الباب الثالث يتحدث عن اللاهوت: تأكيد وجود الخالق، واجب الوجود و المعبود في كيانه، لله الازلي الدائم، الله الخالق الذي لا جسم له مع اننا نقول عنه يسمع و يرى. الخالق يعرف ذاته وكل الخلائق، هو لا يرى بعين الجسد، وهو الخفي الذي لا ُيدرك و يُعلن ابن العبري ان الله واحد وانه مثلث الاقانيم في طبيعة واحدة. وهذا يعني ان الابن و الروح القدس ليسا مخلوقين كما اتباع آريوس ومقدونيوس، بل مساويان للاب في الجوهر.

ويتطرق ابن العبري في الباب الرابع الى سر التجسد وامكانية حدوثه فيعود الى المحصول في الفقه لفخر الدين الرازي ليدافع عن عقيدته من الوجهة العقلية. ويورد النبوءات والمعجزات التي تسند عقيدة الجسد. وفي الباب الخامس يبرهن عن وجود الملائكة وعن عددهم وخلقهم وطبيعتهم ودورهم في مخطط لله، فيستند الى ديونيسيوس المنتحل الذي يعتبر حجة عند اليعاقبة ويوحنا الدمشقي في كتابه الايمان الارثوذكسي وموسى بركيفا في كتابيه خلق الملائكة والرتب الملائكية اللذين ضاعا في السريانية ووُجدا في العربية في مكتبة كمبريدج. ويستفيد ابن العبري ايضا من الفلاسفة العرب ولا سيما الفارابي وابن سينا.

بعد الباب السادس الذي يتحدث عن الكهنوت يعود ابن العبري في الباب السابع الى كائنات روحية اخرى هم الارواح الشريرة: وجودهم وطبيعتهم. يورد الكاتب آراء المانويين الذين يتعبرون الشر كائنا يواجه اله الخير، والقائلين بعدم وجود الشياطين فيرد عليهم راجعا الى البراهين العقلية وتلك المأخوذة من الكتب المقدسة. موضوع الباب الثامن، النفس العقلية. والباب التاسع، الحرية والأرادة. هنا يتحدث الكاتب عن الخير و الشر، عن العناية الالهية، عن حرية الانسان ونهاية حياته. موضوع الباب العاشر، احياء الموتى او قيامة الأجساد. في هذا الباب ثلاثة فصول، الفصل الاول: عودة الفاني الى الوجود والامر ممكن رغم معارضة المعارضين. والفصل الثاني: القيامة او تجدد الأجساد البشرية التي تقوم حقا يوم القيامة. قال الكتاب: “انا الميت وانا المحيي”، قال ايضا: ها انت تصنع للاموات عجائب فيقوم الجبابرة ويمدحونك والذين في القبور يحدثون بنعمتك”، وقال ايضا: “امواتك يحيون و جثثهم تقوم”. ويورد مقال الصدوقيين الذين ينكرون قيامة الموتى ويرد عليهم. وفي الفصل الثالث يتطرق الكتاب الى المسألة التالية: كيف تكون الاجساد عندما تقوم؟ 

في الباب الحادي عشر وعنوانه النهاية والدينونة ومجازاة الخيار والاشرار، يتوقف ابن العبري عند علامات نهاية الازمنة، عند سعادة الخيار وشقاء الاشرار، عند ارتباط الايمان بالاعمال والمجازاة في العالم الآخر.

والباب الثاني عشر عنوانه: فردوس عدن و النظريات المتعلقة بحالة السعادة. الفردوس اين يوجد وكيف تكون الحياة فيه؟ ماذا نعني بشجرة الحياة، وشجرة الخير والشر والحية التي اغوت آدم؟ 

ج- في اللاهوت الادبي

نتوقف في هذا المجال عند ثلاثة كتب تجمع بين القوانين والاخلاق والنسكيات. وهذه الكتب هي: النوموكانون او كتاب التوجيهات، والاثيقون او علم الاخلاق، وهو مختصر في ترويض النساك. 

1- النوموكانون: النوموكانون او مجموعة القوانين اسمه في السريانية كنونو دهودوبي او كتاب الهدايات في الشرع الديني والمدني. نشره في السريانية الاب بولس بدجان اللعازري سنة 1898 ونقله الى العربية دانيال بن الخطاب (+1382) تحت عنوان القوانين البيعية كما نقله يوحنا بن غرير (نهاية القرن السادس عشر) واسماه الهدايات، وفيلوكسيفس يوحنا الدولياني سنة 1929 واسماه الهدى او الهدايات، ولكن هذه الترجمات لا تزال مخطوطة. يقع كتاب الهدايات هذا في اربعين فصلا نورد بعضا منها: العماد، الميرون، القربان، الاصوام والاعياد، الجنائز، الدرجات والرتب الكهنوتية، الاملاك والزواج، الوصايا الوراثة البيع والشراء… 

2- الايثيقون: الايثيقون او علم الاخلاق لحسن السلوك في الدين والدنيا. اتم ابن العبري تأليفه بمراغة في 15تموز 1279 ونشره بول بدجان ونقله الى العربية داود الحمصي ويوحنا بن غرير. وهاتان الترجمتان لا تزالان مخطوطتين، ونقله ايضا المطران بولس بهنام ونشره في مجلة “المشرق” الموصلية قبل ان ينشره على حدة في القامشلي سنة 1967.

يقسم الكتاب الى اربعة ابواب: البابا الاول: تنظيم الحركات التي تساهم في تهذيب الجسد ووقمعه (الصلاة، السهر، الطقوس، الالحان، الاصوام، العزلة، الحج الى اورشليم). الباب الثاني: اعمال الجسد من اكل وشرب وزواج شرعي وطهارة جسدية وواجبات الحال والاشغال اليدوية والصدقة. الباب الثالث: الاهواء المنحرفة وكيفية التخلص منها: تهذيب النفس، الشراهة، العهارة، خطايا اللسان…. الباب الرابع: تزيين النفس بانواع الفضائل: كيف نكتسب فضائل العلم والايمان والصبر….

الباب الاول والثاني يتوجهان الى جميع المسيحيين، اما الثالث والرابع فالى طلاب معرفة الله عن طريق النسك والتواحد.

تأثير ابن العبري في كتاب الايثقيون هذا باسحق النينوي ويوحنا الدلياني ويوحنا رئيس الدير او يوحنا السلمي وبالاخص بالانبا اواغريس الذي يمثل الحركة الاوريجانية المتطرفة، كما تأثر بالمواضيع التي طرقها الغزالي في كتابه احياء علوم الدين.

3- كتاب الحمامه: آخر ما ألفه ابن العبري كتاب الحمامة وهو مختصر في ترويض النسك. أنشأه باقتراح بعض عشاق النسك واسماه الحمامة رمزا الى الروح القدس الذي يعمل في قلوب الكاملين. نشره الاب بول بدجان في باريس وليبزيغ بعد كتاب الايثيقون، والاب قرداحي في روما سنة 1898، ويوحنا دولياني في دير الزعفران سنة 1916، والمطران شيشق في هولندا سنة 1983. نقل الى العربية سنة 1299 وسمي كتاب الورقاء في علم الارتقاء، ونقله ايضا الخوري يوحنا بن غرير الزرباني الشامي في منتصف القرن السابع عشر. ثم نقله الاب يوسف حبيقه ونشره في مجلة “المشرق” البيروتية، ونشر البطريرك زكا عيواص النص السرياني مع ترجمته العربية في بغداد.

يقسم كتاب الحمامة الى اربعة ابواب. الباب الاول: التمارين الجسدية الواجب القيام بها في الدير. الباب الثاني: العمل الروحي في القلاية. الباب الثالث: في الراحة الروحية التي تغمر النفس وكأنها تغطيها بالسحاب حيث يسكن الرب. الباب الرابع: قسم شخصي يتحدث فيه المؤلف عن كيفية عودته الى الخير والصلاح بقراءة كتابات اواغريس والنساك الاخرين. وفيه يشبه ابن العبري الغزالي في كتابة المنتقذ من الضلال. ويضيف الكاتب الى القسم الرابع مئة حكمة عبر فيها بطريقة مكثفة عن اختياراته الروحية السامية.

د- المصننفات التاريخية

يضيق بنا المقام ان نحن توقفنا عند مصنفات ابن العبري النحوية – وقد وضع في هذا المجال كتاب الاضواء وكتاب الغراماطيق – او عند مصنفاته الشعرية التي تدور حول الوصف والحكم والاخوانيات. ولذا ننتقل حالا الى المصنفات التاريخية التي هي اهم آثار ابن العبري وادعاها لتقدير علماء العصر. نتحدث عن تاريخ الزمان، والتاريخ الكنسي، وتاريخ مختصر الدول.

ترك لنا ابن العبري في السريانية مؤلفا واحدا فسيحا هو التاريخ العام. يقسم الى قسمين الواحد ديني والاخر مدني. الا انه فصل بينهما في الطبعات الحديثه. فكان منهما كتابان مستقلان: التاريخ السرياني او تاريخ الزمان والتاريخ الكنسي. واخذ الكاتب بالاسلوب المتبع في عصره، والذي كان يقضي بان تُجمع في عهد الملك الزمني او الرئيس الديني، اشهر الاحداث والمعلومات المتنوعة، حتى الاخبار والنوادر. واليك على سبيل المثال ما حدث في ايام الخليفة العباسي الناصر بن المستضىء الذي بدأت خلافته سنة 1180 وانتهت سنة 1225. لما بويع بالخلافة قبض على الوزير ابن العطار وزجه في السجن… وفي سنة 1180 زحف صلاح الدين ليناوش السلطان قلبح… الذي كان يسىء معاملة زوجته… وفي تلك الغضون سرح البرنس صاحب انطاكية أمراته اليونانية الشرعية واتخذ أمرأة زانية… وفي تلك السنة مات سيف الدين… صاحب الموصل… وفي السنة 1181 مرض الملك الصالح واسماعيل صاحب حلب…

(1) تاريخ مختصر الدول: امتدت كتابة التاريخ العام حتى سنة 1285، ولكنه كان في السريانية فرغب اليه بعض اصدقائه من وجهاء العرب في مراغة ان ينقل الى العربية تاريخه السرياني فلبى الطلب واقبل على العمل فأتمه الا بعض صفحات منه في شهر، بانشاء على جانب من التهذيب والوضوح متوخيا فيه الاختصار. الا انه ضمنه امورا كثيرة لا توجد في المطول السرياني ولا سيما في ما يتعلق بدولتي الاسلام والمغول، وتراجم العلماء والاطباء خاصة. وهكذا كان لنا من ابن العبري بالذات تاريخ مختصر الدول.

يذكر ناشر الكتاب الاب صالحاني في مقدمة الطبعة الاولى ان هذا التاريخ طبع لاول مرة سنة 1663 في مدينة اكسفورد بالعربية واللاتينية بمراجعة العلامة بولوك، ونُقل الى الالمانيه سنة 1783على يد العلامة باور. “ولما عزّ الآن وجود الطبعة الاولى، يقول الاب صالحاني، استفزتنا محبة هذه البلاد الى اعادة طبع هذا التاريخ”. قابل المخطوطات بعضها ببعض فتسنى له ان يكمل ما كان من النقص في النسخة المطبوعة في اكسفورد.

وندخل في بداية كتاب تاريخ مختصر الدول منطلقين مما قاله ابن العبري: “وبعد فهذا مختصر في الدول قصدت في اختصاره الاقتصار على بعض ما أوتي في ذكره اقتصاص احدى فائدتي الترغيب والترهيب من امور الحكام والحكماء، خيرها وشرها على سبيل الالتقاط من الكتب الموضوعة في هذا الفن بلغات مختلفة سريانية وعربية وغيرها مبتدئا من اول الخليفة ومنتهيا الى زماننا. وهو مرتب على عشر دول داولها الله تعالى بين الامم فتداولها تداولا بعد تداول”. ويبدأ الكاتب من دولة الاولياء، من آدم الى قضاة اسرائيل وملوكهم الى الكلدانيين واليونان والعرب المسلمين حتى يصل الى ملوك المغول.

(2) التاريخ الكنسي: وقبل ان نرجع الى تاريخ الزمان، نقول كلمة في التاريخ الكنسي الذي نشره ابيلوس ولامي في لوفان، ونقلاه الى اللغة اللاتينية. كما نقل القس اسحق اجزاء منه الى اللغة العربية في “المشرق” البيروتية.

يتطرق التاريخ الكنسي الى التاريخ الديني والكنسي في الشرق وهو يقسم الى قسمين: يبدأ القسم الاول بذكر احبار العهد القديم منذ هارون ويواصل بسلسلة بطاركة المونوفيزيين (أي السريان اصحاب الطبيعة الواحدة) منذ ساويروس الانطاكي أي منذ سنة 512. في هذا القسم يرتبط ابن العبري بمخائيل السرياني الكبير ويكاد ينقل تاريخه نقلا حرفيا. اما القسم الثاني من التاريخ الكنسي فيتطرق الى الكنيسة السريانية الشرقية منذ بداية النسطورية في القرن الرابع الميلادي فيورد سلسلة الجثالقة والبطاركة النساطرة المقيمين في ساليق ووقطيسفون وسلسلة المفارنة المونوفزيين المقيمين في تكريت. هذا القسم الثاني هو مصدر مهم جدا لمعرفة تاريخ الكنيسة السريانية في الشرق. وكما عاد ابن العبري في القسم الاول الى البطريرك ميخائيل السرياني، عاد في القسم الثاني الى ماري بن سليمان (القرن الثاني عشر) في كتابة المجدل الذي وضعه بالعربية.

نشير هنا الى ان ابن العبري واصل هذ1 التاريخ الى سنة 1285، ثم جاء اخوه المفريان برصوم والصفي فأكمله الى سنة 1288، وبعد ذلك واصل الكتابة فيه أدى السبريني حتى سنة 1496.

(3) تاريخ الزمان: هذا الكتاب لقي اهتمام المؤرخين منذ القرن الثامن عشر فنشروا منه مقاطع عديدة ونقلوها الى اللغات اللاتينية والفرنسنية والانكليزية والالمانية. ثم نشر كاملا على يد الاب بول بدجان، ونقله الى الانكليزية العلامة واليس والى العربية القسم اسحاق ارملة. 

يبدأ تاريخ الزمان او التاريخ المدني بعهد ادم ملك الارض كلها. وينقلنا ابن العبري الى عهد الاباء نوح وابراهيم واسحاق ويعقوب، ثم الى القضاة مثل جدعون ويفتاح وشمشون ويصل بنا الى عهد داود الملك وخلفائه. بعد هذا ننطلق الى مملكة الكلدان, فمملكة الفرس الاولى أي الاخيمينيين، فالى عهد الاسكندر فالبطالسة حتى كيلوبترا، فالى عهد اغسطس. ومنذ عهد الهجرة يحتل الخلفاء المسلمون محل فالبطالسة البيزنطيين بأنتظار ان يفسحوا المجال لملوك المغول والتتر الذين عاش ابن العبري في ايامهم. 

ونستفيد من المقدمة التي دونها الأب فييه في بداية تاريخ الزمان فنقول كلمة في ابن العبري المؤرخ. فهو على غرار ما نجده عند المؤرخين العرب كابن العميد في المجموع المبارك والتاريخ لابن الايثر وتاريخ الامم والملوك لابي جعفر الكبري، يورد ما حفظه من اعمال سابقيه ثم يضيف معلومات تتناول الحقبة المعاصره له. لم يكن ابن العبري اول من كتب في التاريخ بين السريان. وقد سبقه بطريرك انطاكية ميخائيل الاول الملقب بالسرياني الكبير الذي وصل بتاريخه الى سنة 1196. والرهاوي المجهول الذي كتب سنة 1234. هذا فضلا عن الذين يذكرهم البطريرك ميخائيل وهم يوحنا الافسسي ويعقوب الريهاوي وديونيسيوس التلمحري وديونيسيوس الصليبي وغيرهم. ويبدو ان ابن العبري لم يستفد كثيرا من الرهاوي المجهول، ولكنه اكمل تاريخ ميخائيل السرياني حتى سنة 1285.

لم يعش ابن العبري في عزلة بعيدة عن الملوك والامراء. فابوه كان طبيبا لاحد قادة المغول، ولما صار صاحب المقام الاعلى لكنيسته في المملكة المغولية اعترف المغول بسلطته واعطوه وثيقة بذلك، وبفضل هذه الوثيقة شارك في احتفالات البلاط الرسمية وبالاخص في تنصيب الخان احمد تكودار. ثم انه خلال اقامته في مراغة، احدى عواصم المغول، استفاد من مكتبتها وووثائقها فدون تاريخ الحقة هامة. ولم يكمل احد تاريخ المغول بعده حتى قام بتلك المهمة المؤرخ رشيد الدين طبيب وسياسي الايراني المتوفي سنة 1318.

الخاتمة

تحدثنا واطلنا الحديث عن غريغوريوس ابن الفرج ابن العبري والموضوع واسع. فهو المفكر الذي اكتنه الفلسفه اليونانية فروى اخوه عن بعض المسلمين قولهم: “كلما سمعوا المفريان غريغوريوس يشرح لهم قضية يتصوروا انهم يتلقون العلم مباشرة عن ارسطو نفسه”. وهو اللاهوتي الذي شبهه المستشرقون بالقديس ابرتوس الكبير او القديس توما الاكويني ففاقهما بسعة معرفة وتشعبها. وهو المؤرخ الذي نقل تاريخ ميخائيل سرياني مضيفا عليه تسعين سنة فاعطانا عن المغول خاصة فكرة صحيحة لم نكن لنصل اليها لو اننا اكتفينا بالمؤرخين العرب. 

قالوا في انه كتب في كل مطلب وفن فنقصه الاختصاص الذي هو شرط اساسي في تقدم العلم الانساني. ولكنهم نسوا انه المعلم لشعبه والراعي الذي يهمه تثقيف القطيع ثقافة تساعده على العيش ايمانه والرد على المعارضين لهذا الايمان. من اجل ذلك عرض ابن العبري للمعارف التي يتمثلها بسرعة ودقة، فامكنه اخراجها بترتيب وضوح في مختلف الميادين التي جال فيها نشاطه العجيب. هو الذي في حقبة من القلاقل والاضطرابات تضاءلت فيها المعرفة وانحطت الدراسات العلمية. كان عليه واجب استخلاص كنز السريان الثمين و تنسيقه ونشره لاجيال المقبلة، فوفق الى ذلك واستحق تكريم اللاحقين فسموه : علم الهدى وكهف التقى وتاج الامة وامام الائمة واعجوبة من اجل اعاجيب الدهر.

المراجع

1) بتصرف عن:
مقال للاب بولس الفغالي: في الذكرى المئةيى السابعة لوفاة ابن العبري، مجلة المسرة مجلد 73، السنة 1987 العدد 733-734، ص 51-71).
مقال للاب سهيل قاشا: “المفريان غريغوريوس يوحنا ابن العبري ومنزلته العلمية”، مجلة المسرة، سنة 1996، ص. 27-51.
2) كتاب “يوحنا ابن العبري حياته وشعره” للمطران غريغوريوس بولس بهنام، دراسات شرقية 17، حلب 1984، 133 ص.
3)كتاب “تاريخ مختصر الدول” للعلامة غريغوريوس الملطي المعروف بابن العبري” دار المشرق بيروت، 1992، 345 ص.
4) كتاب “تاريخ الزمان” لابي الفرج جمال الدين ابن العبري” ، دار المشرق، بيروت،1991، 416 ص.