Search

التراث العربي المسيحي القديم

الفصل الثالث والعشرون

دراسات حول بعض اللاهوتيين العرب

(11) سليمان الغزي

(المحاضرة الثامنة للاب سمير خليل في المعهد الاكليريكي)
(من كتاب “سليمان الغزي: شاعر وكاتب مسيحي ملكي…” تحقيق وتقديم المطران ناوفيطوس ادلبي،
مجموعة التراث العربي المسيحي، الجزء الاول 1986، رقم 9، 313 ص؛ الجزء الثاني رقم 8، 1985، 459 ص).
(نشرة رعيتي)
(مجلة المسرة 1981، 305-312 و 396-409 و526-543)

عرف التاريخ العربي الكثير من الشعراء العرب المسيحيين الذين لم يشيروا في قصائدهم الى هويتهم المسيحية إلا نفرا: اما سليمان الغزي، الاسقف الارثوذكسي الذي عاش بين القرنين العاشر والحادي عشر للميلاد فلم يتطرق في شعره إلا الى المواضيع المسيحية من شرح للكتاب المقدس، وايضاح للعقيدة وللطقوس، ومدح لحياة الزهد والنسك، وتغنّ بالاخلاق المسيحية، ووصفٍِ لعادات المسيحيين في اعيادهم واحتفالاتهم العبادية، ولا ينسى الاسقف سليمان ان يحث المسيحيين على ضرورة الاهتمام بالفقراء وعدم تخزين المال، كما يحتل شاعرنا اهمية تاريخية قصوى لجهة وصفه احوال المسيحيين العرب في العصر الفاطمي، وبخاصة خلال خلافة الحاكم بأمر الله (1021) الذي اضطهد المسيحيين.

ان الغريب في الامر هو ان المصادر القديمة قد اغفلت تماما ذكر هذا الشاعر الموهوب، فلا اثر له البتة في المراجع العربية التقليدية التي تعرّف بالشعراء والكتّاب. واول من ذكره هو البطريرك اسطفان الدويهي، الذي كتب تاريخا، صنف فيه شاعرنا سليمان الغزي في عداد الكتبة والمؤرخين “الملكيين” الذين قالوا بخروج “مارون” عن المعتقد الارثوذكسي، ومن بينهم يوحنا الدمشقي، وثاوذوريوس ابو قرة، وبولس الراهب…

على ان الفضل الاكبر في التعريف بشاعرنا يعود ولا شك للمرحوم عيسى اسكندر المعلوف، الذي اطلع الادباء والمؤرخين العرب، في مقالين نشرهما سنة 1910، في مجلة “النعمة” على سيرة شاعرنا وديوانه الشعري.

وقد اخذ عنه الاب لويس شيخو، فخص شاعرنا بنحو خمس وعشرين صفحة، في كتابه “شعراء النصرانية بعد الاسلام”، الذي صدرت طبعته الاولى سنة 1924، فاورد من ديوانه مقاطع عديدة منه.

ثم جاء العلامة الاب بولس سباط السرياني، فاطلع العالم المثقف بين سنتي 1928 و 1938، على عدد كبير من مخطوطات ديوان شاعرنا. لكنه اخطأ في تجديد زمانه، فنسبه الى القرن السادس عشر، بينما هو من القرن العاشر والحادي عشر.

وجاء المستشرق الالماني جورج غراف، واضع “تاريخ الادب العربي المسيحي” بخمسة مجلدات، فاوجز ما كتبه المؤلفون الذين سبقوه ونسقه. ثم اكتشف الاب ايلي خليفة، من جامعة الروح القدس بالكسليك، سنة 1966، مخطوطا جديدا لديوان شاعرنا، فعرّف به.

واخيرا جاء الاكسرخوس يوسف نصرالله، الذي يعمل منذ سنوات على نشر موسوعة ضخمة في تاريح الحركة الادبية عند الروم الملكيين، في سبعة مجلدات، فنشر سنة 1978، مقالا قيما عن “سليمان الغزي”، وهو بلا شك احدث واكمل ما كُتب عن شاعرنا حتى الان.

الاسم

حسب المخطوطات أسمه سليمان واحياناً يضاف الحكيم، تشبيها له بسليمان ابن داود الحكيم، للدلالة على مدى ثقافته واعتبار الناس له. وأحياناً كثيرة تطلق عليه في بعض المخطوطات نعوت تبجيلية مثل: “الشيخ الفاضل والعالم سليمان الحكيم ابن الحسن الغزي رضي الله عنه ” أو ” قدّس الله روحه ونوّر ضريحه.”

كان اسم والده الحسن، لذا دُعي “ابن الحسن”، وليس في الامر غرابة، اذا كان هذا الاسم شائعا بين المسيحيين في عهده كغيره من الاسماء العربية التي بطُل استعمالها عندهم، فبدت وكأنها مقصورة على المسلمين وحدهم. على أن المخطوط رقم 48 من مكتبة الآباء البولسيين في حريصا، يدعوه “سليمان بن سليمان حسن الغزي”. وهذا يدل اما ان تكون هذه التسمية مغلوطاً فيها: لأنه الوحيد الذي يذكر هذا الأسم مع أنه يرتقي الى القرن الخامس او السادس عشر ميلادي. واما نسلّم بأن كان لوالده أسم مزدوج، او حتى اسمه هو.

اما لقبه “الغزي” فيدل على موطنه او موطن اسرته، فيشير الى المدينة التي نشأ فيها وصار في فترة لاحقة اسقفا عليها، اي مدينة غزة الفلسطينية، مع انه لايذكر شيئاً في كتاباته انه ولد في غزة.

الدين والمذهب

هنالك عدة أراء حول كونه مسيحياً. أكان مسيحياً بالولادة أم تّنصر بعد الاسلام. يقول الاب لويس شيخو في كتابه “شعراء النصرانية بعد الاسلام” عن شاعرنا: “ان نصرانيته واضحة وضوح الشمس في كل قصيدة من قصائده وكلها منظومات نصرانية. وانه كان ضليعا في العقائد المسيحية، حافظا لآيات الكتاب المقدس حتى انه رقي اسقفية غزة، والظاهر ان انتقاله الى الاسقفية كان بمدة قريبة، لأن ديوانه باسم الشيخ سليمان بن حسن الغزي، بينما مقالاته وتحاميده كانت باسم المطران سليمان الغزي. ويتفق الاب شيخو والاستاذ المعلوف بقوله: “وبعد مراجعة ديوانه والامعان في قصائده تحققنا انه لم يولد نصرانيا، وانه كان مسلم النحلة فتنصر بعد ردح من الدهر فتراه يشير كثيرا الى حياته السابقة ويذرف الدموع السخينة على ضلاله وآثامه”. ويرى المطران ادلبي، ان سليمان الغزي ولد مسيحياً، ونال العماد المقدس في الكنيسة الملكية الارثوذكسية، وترهب في صباه، ثم عاد الى العالم وعاش مسيحيا بل اسقفا، استنادا الى قول الشاعر:

              فقد نجست ثوب القدس جهلا                          بمن بجلال كسوته كساني

والمقصود في ذلك حصوله على المعمودية المقدسة (ثوب القدس) الذي نجسه بعد ذلك بخطاياه جهلا منه بعظمة المسيح الذي كساه بجلال كسوته. ما لم يرد بذلك الاسكيم الرهباني الذي نزعه عنه مغادرا العيشة الرهبانية الى العالم.

اما عن مذهبه فهو الارثوذكسية حيث يعتز فيها ، حسب القصيدة الأولى من ديوانه بقوله:

           ما كل معتمد بالماء نصراني                                غير اعتماد حياة العالم الثاني 

يعدد الشاعر بدع النصرانية ويكفر بها، كآريوس وملكدونيوس ونسطور، ويعقوب البرادعي، الى أن يقول:

           هذي مذاهب أقـوام لكـفرهـم                                ضلوا الهدى عن طريق شبه عميان
           فالفضـل للأرثـوذكسين انهـم                               تـمذهبوا مذهباً فـي الله حقاني

ولربما نستغرب من شدة تعلقه بالارثوذكسية الملكية فيصنف الرسل القديسين بأنهم أصحاب المذهب الملكي!

            قدوس، يوم الوصية لرسلك الملكية                  كشفت كل خفية مفهماً تفهيما

وترهب في صباه، ثم ترك الرهبنة وتزوج وانجب اطفالا، اما عن ترهبه في بيت المقدس، ثم مغادرته الدير وعودته الى العالم فيقول:

             ترهبت زاهداً في مباشرة النسل                         وأعرضت اعراضاً عن المال والأهل 

ويقول كيف انه ” غدا ” اليهم في صباه، ثم ” راح ” عنهم:

              يا رب أعطني الخلاص، فقلـبي                            شائق نحوهم يذوب ارتياحا
              وأرحم الخاطئين من أهل بيعتك                        ومـن غـدا لهـم ثم راح

ويقصد هنا الرهبان والنساك الذي يذكرهم بأسمائهم في أماكن أخرى. بعد مغادرته الدير “في غضون الشبيبة والجهل” كما يقول، وقد تزوج وأنجب ولداً واحداً، ولعله رزق أيضاً بنات. لكنه لا يذكر لنا عنهن شيئاً سوى أنه مضطر للأهتمام بهن في العالم بدل العودة الى الدير.

رغم تركه الدير فقد عاش متمسكاً بالشعائر الدينية، ممارسا فرائض العبادة، تقياً ورعاً، مترددا على الاماكن المقدسة في فلسطين ووصفها ومدحها في شعره مما يستدل معه انه عاش بجانبها طول حياته وليس كالحجاج، متضّلعاً بالكتاب المقدس، ملماً بمبادىء الدين المسيحي والعقائد، رجل مجادلة وحوار مع اليهود والأسلام. عاش حياة الزهد الرهباني في العالم. كان محباً للفقراء، محسناً كريماً، محباً للبساطة الأنجيلية، أميناً على أدق تعاليم السيد المسيح، حتى أصعبها.

اسرته

الأرجح أنه كان من عائلة ثرية مرموقة، لأن معظم المخطوطات تدعو والده “الشيخ حسن الغزي” وهو لا يطلق الا على شيوخ القوم وأثراهم، وكذلك عن شهادته لنفسه عندما يقول:

                 قد كنت في نعمة لله سابغة                            لو طاولَتها ذوو الأقدار لم يصلوا

ولكن في موضع آخر يشير الى تقلبات الدهر، والمصائب التي تحل به فيخسر كل شيء :

                 دفعتني أيـامـه والليالـي                                      مـن علو القصـور للأحداث

طلقت والدته والده، فتركت ولدها دون ام في الحياة، وكأنه يتيم وكان هذا الخلاف العائلي اول ما لمسه شاعرنا من شقاء الحياة. تزوج سليمان بعد مغادرته الرهبنة وانجب ولدا لم يذكر لنا اسمه وهذا بدوره انجب ذكرا وحيدا اسماه ابراهيم، ورزق شاعرنا ايضا بنات بدون معرفة عددهن حيث يقول ان وجودهن يمنعه عن العودة الى الدير للاهتمام بهن.

عاش سليمان بخلافات مع زوجته. ففي قصيدة يهجوها فيها وقد شاخ في السن ولشدة استيائه منها يدعوها الى ان تفعل به كما فعلت امه بابيه وبتطليقه وهجره امام قاضي الشرع وكاتب المحكمة الشرعية. لكن زوجته توفيت وقد امسى عمره 80 عاما فنال الرسامة الاسقفية.

جار عليه الدهر فنكب بوفاة حفيده ابراهيم الذي كان قد تعلق به بشدة فبكاه بكاء مرا، ثم ما عتم ان فجع مجددا بوفاة ولده المفجوع بوفاة ابنه ابراهيم،، فبكاهما شاعرنا بدموع القلب، وخسر بموتهما كل عقب ذكر يحمل اسمه ويُخلد سلالته. وبقي في الحياة شبه وحيد على رأس مؤلفة من النساء توجب عليه الاهتمام بهن مما حال دون تحقيق حلم حياته في العودة الى الدير واعتناق الرهبنة مجددا.

في رثائه لولده وحفيده يقول:

                    اقول للدار والسكان قد رحلوا                     والدمع من مقلتـي في الخد منهمل
                    يا دارُ هل لك علم بالذين مضوا                   وغيبتهم صروف الدهـر، ما فعلوا؟

ثم يتابع قائلا:

                    ثكلت مـن بعد ابراهيم والـده                       نحلـت واضنـى جسمـي الثكل.

ثم رُزىء بفقد اخوته واهله فقال مناجيا الرب يسوع بقوله:

                    ألا استغفروا ذنب الذي قالها لكم               وأعدم قلب الاخ والاخت والاهل
                    فيا سيدي انت الذي قلت صادقا                  تعالوا فانـي راحم البعـض والكُل
                    اقلني خطائي واعف عن قبح زلتي                 فمثلك يعفو عن خطأ مُذنب مثلي.

ويبلغ به الحزن والسأم الى حد انه تمنى الموت بقوله:

                    وكيف يطلب طول العمر ذو الم                    ولا يستريح وان طالت بـه الطـول
                     فالموت اصلح للمكروب من وجع                ومـن عـذاب بـه قد يُضرب المثل.

وكان سليمان مولعاً بالأدب طوال حياته. فقصائده كتبت على أمتداد سنوات متعددة. وأستمر في الكتابة حتى بعد السيامة الأسقفية وأقتراب الأجل.

وللأسف لا نعرف اين درس سليمان الغزي؟ ومن عاشر من الأدباء والشعراء؟ وهل عمل كاتباً في احدى دوائر الدولة الفاطمية؟ أم نتيجة موهبة خاصة؟ هذه الأسئلة تبقى دون جواب لأنعدام الأشارات اليها في ديوان الشاعر.

الزمن الذي عاش فيه:

في عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (996-1021) تعرض المسيحيون في بلاد الشام الى اضطهاد ديني قل نظيره. فقد عُرف عن الحاكم التطرف وانفصام الشخصية، وعلى الرغم من ان والدته كانت مسيحية الا انه قتل خاليه (اشقاء والدته) ارسانيوس بطريرك الاسكندرية الارثوذكسي وشقيقه بطريرك اورشليم الارثوذكسي، وامر بقيود شديدة على المسيحيين من لبس العمائم والزنانير والالبسة السوداء مما يعرف بلبس الغيار. وفرض عليهم ايضا متى دخلوا الحمامات العامة ان يجعلوا في اعناقهم صلبانا زنة الواحد منها خمسة ارطال أي نحو كيلوغرامين وان يرسلوها متدلية على صدورهم وامر بهدم الكنائس في مملكته، ومنها كنيسة السيدة بمصر القديمة، وكنيسة مريم بدمشق، وكنيسة القيامة، ودير سيناء… وقد امر المسيحيين بجحد دينهم او التغرب عن اوطانهم، والهجرة الى بلاد الروم، فهاجر الكثيرون منهم في هذه الحوادث وعلى قول “المقريزي” اسلم كثير من النصارى. فيشددهم شاعرنا بقوله:

                        تجلدوا كل الجلد ثم اصبروا على النكد                                    كذلك الله وعـد بحفظ الاحـد
                        الا احملوا صلبانكم وصالحوا اخوانكم                                    وقربوا قربانكم بحفظ يوم الاحد.

وجملة القول ان شاعرنا قدم لنا في شعره ونثره لوحة صادقة عن وضع المسيحيين في زمن الحاكم بأمر الله، فهم مُضطهدون اذلاء مضطرون الى الهجرة او الاسلام.

وجدير ذكره انه وقبيل وفاته 1021 م أمر الحاكم بأمر الله بايقاف الاضطهادات والغاء القيود عن المسيحيين. ك امر ولاته باعادة بناء بعض الكنائس ومنها كنيسة القيامة في القدس وكنيسة مريم في دمشق.

إلا ان الاراء تضاربت عن الفترة التي عاش فيها سليمان الغزي وكتب مقالاته وقصائده فيها ولكن نستطيع أن نحدد بوجه التقريب كما يلي:

– كتب القصيدة 69 من ديوانه حول سنة 966. وهي السنة التي يقول فيها أن كنيسة صهيون بالقدس نهبها ودمرها الكّفار.

– نظم القصيدة الأولى من ديوانه بعد سنة 988. وهي السنة التي أهتدى فيها الشعب الروسي الى الأيمان بالمسيح.

– عاصر الأضطهاد الديني الذي شنّه الحاكم بأمر الله الفاطمي على المسيحين بين سنة 1004 و1017، وشهد هدم قبر المسيح سنة 1009.

– حتى سنة 1027 كان لا يزال على قيد الحياة. وهي السنة التي وضع فيها ايليا أسقف نصيبين صورة أعتقاده بوحدانية الله وتثليث أقانيمه، فنقلها عنه شاعرنا سليمان الغزي.

اذن نستطيع القول أنه ولد في منتصف القرن العاشر ميلادي وتوفي أسقفاً وقد تجاوز الثمانين من العمر في الثلث الأول من القرن الحادي عشر.

الأسقفية

لا شك ان سليمان العزي سيم اسقفاً بعد ترمله وقد تجاوز الثمانين من عمره. ولكن لا نعرف كم من السنين عاش اسقفاً. حتى أننا نجهل تاريخ ميلاده ووفاته. وان سيم اسقفاً، وهذا واضح من ديوان شعره، حيث يقول:

                               يا بيعة الله الكريمة فاسمعـي                      مما يقول في الكتاب الاسقف
                               فهو المخاطب عن مسيح الله                      ناموسه وهـو الاغر الاشرف
                               لا تغفلي عما يقول تكبرا                                فذوو الفساد من الاجابة تأنف

الا أننا لا نعرف ان كان اسقفاً على غزة أم على غيرها من المدن. ولكن من مخطوط القبر المقدس رقم 101 يشير الى: “مسائل وأجوبة من ديوان الغزي، وكان اسمه سليمان، وكان مطران غزة رضي الله عنه.” ومن دعاء الى الله يرجوه فيه العطف على كنيسته التي سُقف عليها بقوله: “اللهم أسالك ان ترحم هذه الكنيسة القليلة العدد المائلة الأود. يا رب حياة الابد وخلصها من كل شر ونكد بشفاعة اجّل من حبلت بولد العذراء ام النور وجميع القديسين. آمين” .وكأسقف يحث الغزي المسيحيين في قصائده الزهدية (التي تقارب ربع ديوانه الذي نشره المطران ناوفيطس ادلبي عام 1984) على التوبة والصلاة والابتعاد عن الكسل واباطيل هذا العالم. كما ويدعوهم الى الاعتراف بخطاياهم والاتضاع والعطاء، فيقول مثلا:

                            يا نفس توبي وقومي الى الصلاة فما                 يوافق النفس ان مالت الى الكسل
                             ألا اهجـري هـذه الدنيا وزينتها                             تمّـت لشيطانيها بالمكر والحيّـل

وفاته

يؤكد الاستاذ المعلوف والاب شيخو استشهاد سليمان الغزي، استنادا الى ما ورد في بعض التعليقات والحواشي المسطرة على نسخة من ديوانه. ولكن المعلوف لم يذكر في أية نسخة طالع فيها ذاك التعليق. اما المطران ادلبي فينفي القول بموته شهيدا، لعدم وجود دليل يدل على استشهاده حيث يقول: “… اذ ليس في ديوانه من قول او تهجم قد يكون سبب قتله”.

اعمال سليمان الغزي

له عدة مؤلفات نثرية بالأضافة الى ديوان الشعر الذي يعتبر من اكبر وأهم اعماله. بالنسبة للمؤلفات النثرية، فقد كانت ذات طابع ديني “شرح فيها لبيعات المسيح شرحاً في العلم”، أي في علم الدين. وهنا لائحة بهذه المؤلفات:

1- مقالات:
– رد على المخالفين الأمانة المستقيمة الأرثوذكسية.
– في معنى اعتقاد النصارى الأرثوذكسية في وحدانية الخالق، ونفي التهمة القبيحة التي يرميهم بها أضدادهم بغير حق.
– في الصليب.
– في أن الأنسان هو العالم الأصغر.
– في فضل الجديدة على العتيقة.
– في معنى ايمان النصارى الأرثوذكسية باله واحد.
– شهادات من أقوال الأنبياء.
– في تأنس كلمة الله. 

2- ميامر، وهي ثلاثة. (مقالات صغيرة)
1 سؤالات وأجوبة، وعددها ثلاثة.
2- أدعية، وعددها خمسة.
3- تحميد، واحد.

والمخطوطات التي نقلت الينا مؤلفاته النثرية أقل من مخطوطات الديوان الشعري. وأقدم مخطوط للديوان لا يرتقي الى أقدم ما قبل القرن الخامس أو السادس عشر، بينما مخطوطات المؤلفات النثرية، الى القرن الثاني والثالث عشر، وبعضها نُسخ سنة 1116، أي بعد وفاة المؤلف بأقل من قرن.

وبما يخص المؤلفات النثرية نستطيع اختصار بعض الأفكار والمعلومات عنها وعن شاعرنا : 

– رغم اختلاف المخطوطات أحياناً، ومع وجهات شبه عديدة بين معاني الديوان وتعابير المخطوطات لا شك فيه أن المؤلف واحد، هو سليمان الغزي.
– تفيدنا بأنه كان لشاعرنا أسمان: سليمان بن بصيله وسليمان بن حسن الغزي، أو سليمان بن سليمان بن حسن الغزي.
– المؤلفات تظهر لنا مدى ثقافته الدينية. فهو رجل “لاهوتي” متمرس بعلم الكلام، فيلسوف تقليدي، مؤرخ كنسي.
– من هذه المؤلفات نرى ايضاً ارتباطه ” بمعلّميه ” في علوم الدين. وفي طليعة معلميه ذكر القديس يوحنا الدمشقي، وثاذورس أبي قرّة، أسقف حران.

3-ديوان الشعر:
تجاوزت مخطوطات ديوانه الشعري 40 مخطوطة، وهي تعود الى القرن الخامس عشر ميلادي وما بعده.

نظم الديوان: يرى الأب لويس شيخو “أن نظم الديوان لا يخلو من ضعف، سواء اكان في التركيب ام في الجوازات الشعرية… فأن في قصائده أغلاطاً نحوية ومسوّغات شعرية تجاوز فيها الحدود عن سواه من الشعراء. ولعل بعض هذه الأغلاط اللغوية والخلل في ضبط الأوزان الشعرية قد تسرب الى ديوانه بفعل الناسخين او قل بالأحرى الماسخين. فمنها ما لا يصعب اصلاحه، الا أن هناك من الشوائب ما لا يمكن نسبته لغيره لغةً ونظماً… مما يدل على أنه لم يدقق في ضبط اللغة، وفي لزوم قوانين العروض… على أننا لا يمكننا ان ننظم شعره في جملة الشعر العامي، فانه أعلى منه طبقة وأضبط وزناً “.

ولكن الخبراء في ديوانه، يعتقدون أن هذا الحكم قاسي ومبالغ. فكثير من الأخطاء هي من الناسخ، لبساطتها. والمهم كان في نظره أن يختل وزن الشعر، لذلك كان يضحي أحياناً بقواعد اللغة.

لغة الديوان: وحسب رأي الأب لويس شيخو أن شاعرنا “يسّكن المتحرك ويحرك الساكن، ويصرف ما لاينصرف، ويمنع المعرب عن أعرابه، ويجمع الفعل مع ظهور فاعله، وينصب المرفوع ويرفع المنصوب، ويبّدل همزة الوصل بهمزة القطع ويعكس، الى غير ذلك، مما يدل على أنه لم يدقق في ضبط اللغة.” وهذا الحكم اجمالاً صحيح.

خصائص الديوان:

1- أبرز ما يمتاز به ديوان الشعر هو الطابع الديني المسيحي المحض. لذلك يستحق ديوانه العنوان الذي خصه به بعض النساخ، فدعوه ” أبيات روحانية “.

2- كان غزيراً بالمعاني السامية الروحانية العالية، أكثر من هو شعر بكل معنى الكلمة. فكثيراً ما يضحي بقواعد اللغة على مذبح قواعد العروض.

3- سمح لنفسه أحياناً باستعمال تعابير من اللهجة العامية، أكثر مما يجوزه الشعراء لأنفسهم. ومع ذلك فالديوان فصيح اللغة، صحيح التعابير.

4- قيمة الديوان متفاوتة، ففيه أبيات رائعة وأبيات رتيبة وفيه أيضاً أبيات ضعيفة.

5- تظهر براعة الشاعر في القصائد الزهدية والدهرية أكثر من غيرها.

6- يتطرق الى موضوعات مختلفة، خصوصاً في القصائد الطويلة. مثلاً قصيدة 44.

7- يظهر جلياً أنه متضلعاً في علم الكتاب المقدس. فالديوان مليء بالأشارات الى مراجع الكتاب المقدس. كقصة موسى وخروج العبرانيين من مصر، وقصة ولادة يسوع واعتماده وعجائبه، كما نظم شعرا بعض الامثال الواردة في الانجيل، كمثل العذارى العشر، ولعازر والغني، وخصص شاعرنا العديد من المقاطع للتغني بمريم من طفولنها الى رقادها مرورا بمختلف احداث حياتها كالبشارة ودخول السيد الى الهيكل، فيتوجه اليها قائلا:

                            “ومن بطن مريم نلنا الحياة                                  قد انهزم الموت منا وفر
                              اطوباك طوباك يـا من بها                                  تجدد ما كان منا اندثر”.

8- نتيجة عيشه في بيئة يهودية، فقد أمتاز بانهماكه في الجدل مع اليهود، وبحمله عليهم، وهجائهم بأعنف الكلام.

9- يعتبر هذا الديوان أقدم ديوان ديني صرف لشاعر عربي مسيحي من الكنيسة المستعربة. وهنا تكمن أهميته. ( القرن العاشر ميلادي ). فيتطرق سليمان في اماكن عديدة الى الايمان المسيحي بالتوحيد والتثليث، فيقول ان الايمان بالاب والابن والروح القدس لا يعني الايمان بثلاثة الهة او ثلاثة ارباب. ويعرض الشاعر ايضا لمشكلة الشر، فيكفّر كل من يدعي ان الله خالق الشر. كما يسهب الاسقف سليمان في التحدث عن سر التجسد والفداء والقيامة والخلاص، فيبين ان موت المسيح على الصليب قد منح الحياة للعالم.

                                “ان كان موتي من خطيئة آدم                           فمن المسيح قيامتي وبقائي”.

وفي ما يبدو ردا على المسلمين الذين يعتقدون ان المسيح لم يُصلب او يُقتل على الصليب، يؤكد شاعرنا ان سبب قيامتنا وحياتنا ليس سوى المسيح المائت والقائم من بين الاموات، فيقول:

                                “من قال مات مسيح الله ما كذب                   ايُنبيك انجيله بالحق عـنه نبـا
                                  او لم يمت لـم يكن أحيا بيعتنا                        واشهر النور اشهارا وما حجبا”.

ويقول ايضا:

                                  “زالت شكوك الناس والاوهـام                       في البعث، إذ قام المسيح، فقاموا”. 

10-كذلك الأهمية التاريخية. فالديوان محشو بذكر الأماكن المقدسة المسيحية في فلسطين، وكذلك وضع المسيحين العرب الصعب أثناء الحكم الفاطمي. وايضاً عادات المسيحين في ذاك العصر.

11- ولا يمكن نسيان الأهمية اللغوية والأدبية المرموقة. فهو نموذج واضح لما وصلت اليه المعارف في الأوساط المسيحية الراقية في تلك الحقبة. 

12- لا يوجد هنالك ترتيب أو تصميم خاص يتبعه، ولكن دائماً يختم جميع قصائده بطلب المغفرة عن زلاته، او الأستشفاع بالسيدة العذراء، أو تحريض القراء على الدعاء من اجله.

13- في موضعين من الديوان يكشف لنا سليمان الغزي الغاية من نظم ديوانه الديني. ففي الموضع الأول غايته هي تسبيح الله في الشعر، من خلال ترنيمها في الكنائس. والثانية هي تقديم العقيدة المسيحية “للشعوب” الغير مسيحية. فيقول:

                                     أسبح للرب الـذي في بيوتـه                             أنادي بقول الحق كالمترنم
                                     وأشهره بين الشعوب ليسمعوا                  مقالاً كمثل اللؤلؤ المتنظم

وفي الموضوع الآخر، يؤكد رغبته في تعليم المسيحين وكشف أسرار الدين المسيحي لهم. وليس فقط متوجهاً الى كنيسة معينة بل الى كل كنائس المسيح. باعتبار نفسه اسقفاً مخّول بالتعليم المسيحي رسمياً. فيقول : 

                                     كشفت للناس حالاً كان مكتوماً                          وما خصصت بقولي منهم قومـا
                                     أوضحت بالحق ما قالت شريعته مسطّراً          في بياض الصحف مرقوما
                                     لكن شرحت لبيعات المسيح بها                        شرحاً في العلم منثوراً ومنظومـا. 

• يتحاشى الاسقف سليمان التعرض للاسلام والمسلمين، بل يتجنب حتى ذكرهم ذلك ان الوقت كان عصيبا، الا انه كان محيطا بالعبادة الاسلامية وحافظا بعض تعابير القرآن، وهذا ما نلمسه في قصائده كما في البيت التالي، حيث يقول في بشارة الملاك جبرائيل لمريم:

                                    “فقالت لجبريل: مـن أيـن لي                                ولاد ولـم يـدن مني ذكـر”. 

يبدو واضحا في هذا البيت ان الشعر يستعيد الاية القرأنية التي تقول: “أنى يكون لي ولد ولم يَمسني بشر”.

• اهتم سليمان كثيرا بالفقراء والمعوزين ودعا المؤمنين الى الاهتمام بهم، وقال مسترشدا كلام يسوع في الانجيل:

                                   “الا فاحفظوا المسكين حفظ كرامة                     فاكرامه فعل الى الله صائـر
                                    ومن يمنع المسكين بخـلا بمـا لـه                         عليه ليبقى مأله فهو خاسر”.

• وكرس سليمان موهبته الشعرية في مكانها الحقيقي، اي في التعليم والارشاد والوعظ والرد على الهرطقات، فاستفاد المؤمنون واغتنت الكنيسة من نتاجه، معنى هذا ان المؤمن يستطيع ان يوجه موهبته، ايا كانت، وجهتها الكنسية، ولا شك ان مواهب الرسم والنحت والتصوير والشعر والادب وغيرها، اذا سلكت سلوك موهبة سليمان الغزي، تؤدي هي ايضا الى ملكوت بهي لا يفنى.

الخاتمة

كان سليمان الغزي انسانا متألما في معظم حياته، لكنه بالمقابل كان يعيش ملء الرجاء بالرب يسوع. وخير ما نختم به هذا الفصل، هذه المناجاة الرائعة لللسيد المسيح تنم عن شعوره المرهف وتقواه العميقة فيقول:

“فيا سيدي أنت الطبيبُ لعِلتـي وموجبُ أسباب الحياة لمهجتي
كتابُكَ ناموسي وجسمُكَ هيكلي وكـلـمتُكَ أبدت مسامعَ كلمتي
وقُدسُكَ من أبواب صهيونَ لاحَ لي ووجهُك في أعلى السماواتِ قبلتي
تُعذبني الدنيا بصرفِ هُمومِها وتقليبها لي في رخائي وشدتي
وأقبلتُ مع لص اليمين الذي مضى بإيمانه مستفتحاً باب جنتي
فما بيدي نلتُ الحيــاةَ وإنما بقوتك اشتدت من الضعف قوتي
لك الشكر يامولاي في مافعلتَ بي أضاعفه للدهر أضعافَ نعمتي
وأبـلغُ ما أملـتهُ ورجـوتُـه إذا ما انقضت من عالم الكون مُدتي”.