Search

التراث العربي المسيحي القديم

الفصل التاسع

الكتّاب العرب المسيحيون وعلم اللاهوت

بحث ادبي تاريخي لاهوتي

المطران ناوفيطوس ادلبي – مطران حلب للروم لكاثوليك (متوفي)
مجلة المسرة(79) 1993، العدد 805 ص. 935-948

كان الحديث في الآونة الاخيرة عن الادب العربي المسيحي، وصدرت في هذا الموضوع ابحاث كثيرة وعميقة. لكن هذه الابحاث في تحاليلها بقيت محصورة الى الان في اوساط علمية متخصصة، بين المستشرقين من جهة، والشرقيين من جهة اخرى. ومع ذلك فإن رواد هذا البحث في صفوفنا يُعتبرون من أئمة المؤرخين والادباء. نذكر منهم، على سبيل المثال، فضلا عن يوسف السمعاني، الاب لويس شيخو اليسوعي، والاب قسطنطين باشا المخلصي، والاستاذ عيس اسكندر المعلوف، والمؤرخ حبيب زيات، والاب بولس سباط، والمطران يوحنا منصور،والاب سمير خليل اليسوعي، والاب كميل حشيمة اليسوعي، والاب كيرلس حداد المخلصي، الاستاذ رشيد حداد، والاب فائز فريحات المخلصي، والاكسرخوس يوسف نصرالله، والاب بولس خوري، والاب اغناطيوس ديك، والمطران حبيب باشا، والاب ميشال حايك، والاب ميشال ابرص، الاب بيير مصري، والاستاذ جريس الخوري، الاب يوسف حبي من الموصل، والاستاذ كوركيس عواد من بغداد.. ومن بين المستشرقين المعاصرين نذكر خصوصا الاب جورج غراف، واضع موسوعة “تاريخ الادب العربي المسيحي”، بالالمانية في خمسى مجلدات.

وقد اهتدينا مؤخرا، نحن ايضا، الى هذا اللون من الادب العربي القديم، فأسسنا بالتعاون مع حضرة الاب سمير خليل اليسوعي، مجموعة “التراث العربي المسيحي”، صدر منها حتى الان احد عشر مجلدا، خصصنا ثلاثة مجلدات منها للشاعر سليمان بن حسن الغزي. ولنا وطيد الامل ان تتابع هذه المجموعة صدورها بانتظام.

هذا مجال واسع من الادب العربي كان مجهولا او شبه مجهول في اوساطنا المسيحية. مع انه انتاج رائع وغزير. يكفي ان نذكر هنا اننا احصينا بين سنة 750 وسنة 1250 للميلاد نحو الفي كاتب عربي مسيحي. لا يزال انتاجهم الفكري في اغلب الاحيان، دفين المخطوطات، مع انه مدعاة للفخر والاعتزاز. اذ يتناول جميع ميادين العلم، من فلسفة وطب ورياضيات وفلك وصيدلة وعلوم طبيعية وشعر وفيزياء وكيمياء وهندسة وتاريخ، فضلا عن المواضيع الدينية، بحيث يجوز القول انه لولا الكتّاب العرب المسيحيون لما كان عند العرب انتاج علمي يُذكر. ولا بد من التركيز هنا على ان الكتّاب العرب المسيحيين لم يقتصروا على “النقل” فقط من اليونانية والسريانية، كما يريد البعض أن يُظهرهم، بل كانوا ايضا باحثين ومؤلفين اصليين.

كل ذلك يدلنا على ان هؤلاء الكتبة كانوا متناغمين تمام التناغم مع بيئتهم الثقافية، فكانوا منها ولها، ولم يخطر على بالهم يوما، انهم غرباء عن العالم العربي والثقافة العربية، فاعطوا بذلك اكبر برهان على تجسد الكنيسة في كل بيئة وكل ثقافة.

الكتّاب العرب المسيحيون فئتان: العرب الاصليون والعرب المستعربون. العرب المسيحيون الاصليون هم ابناء القبائل العربية التي ما برحت تزحف من شبه الجزيرة العربية نحو الهلال الخصيب شمالا، وحافظت على عروبتها ودينها حتى بعد الفتح الاسلامي بزمن طويل. والمسيحيون المستعربون هم ابناء البلاد الاصليون، من ملكيين وسريان مشرقيين وسريان غربيين (يعاقية) واقباط وموارنة، وقد تطبعوا بالثقافة الجديدة وتكلموا وكتبوا باللغة العربية، مع العدول تدريجيا عن لغتهم الثقافية او القومية الاصلية، فاستعربوا وحققوا بذلك ما نسميه اليوم “المثاقفة”.

لا يخفي على ما لكلمة “عرب” او “عروبة” في بعض الاوساط المسيحية اليوم، لا سيما اللبنانية منها، من مدلولات سلبية وانفعلات مثيرة، اذ اعتبرها البعض مرادفا لكلمة “اسلام” او “مسلمين”. على انه من الواضح ان هذا المفهوم هو خاطىء. فالعرب كانوا عربا قبل الاسلام وبعده. فليس كل عربي مسلما ولا كل مسلم عربيا. وفضلا عن ذلك، يعلم الجميع ان فكرة “العروبة” انما تبنتها الاوساط المسيحية في الشرق. ولا سيما اللبنانيون منهم في القرن التاسع عشر، اذ اعتبروها بديلا عن “الامة الاسلامية” التي لا يصح ان تكون قاسما مشتركا لجميع مواطني هذه المنطقة.

نحن نفهم اذا بالكتّاب المسيحيين العرب اولئك الذين كتبوا باللغة العربية، علما ان منهم من كتب ايضا باللغة السريانية او اليونانية او القبطية. اذ كانوا ينتمون الى طوائف مختلفة من ملكيين ونساطرة ويعاقبة وموارنة وحتى من بعض الارمن. فالعروبة في نظرنا بيئة وثقافة. وبهذا المعنى الضيق فقط يمكن اعتبار مسيحيي هذه البلاد عربا، لا اكثر ولا اقل من غيرهم.

هؤلاء الكتاب العرب المسيحيون كتبوا في شتى المواضيع، نقلا او ابداعا. لكننا نختار من بينهم في بحثنا هذا من كتب منهم في العقيدة المسيحية، أي من ندعوهم اليوم “اللاهوتيين”. ونحن نتساءل: هل يصح التحدث عن “لاهوت عربي”؟ ونجيب دون تردد: نعم.

هناك لاهوتيون عرب بكل معنى الكلمة. وقد احصينا عدهم ففاق المئة كاتب لاهوتي… ثم نتساءل: هل لهؤلاء اللاهوتيين العرب لاهوت متميز…؟ وما هي ميزاته؟… ونتساءل اخيرا: هل لهذا اللاهوت العربي فائدة او نفع للمسيحيين اليوم في العالم العربي؟… ام انه مجرد مواقف عامة تقليدية بالية، ما عاد لها من تأثير في يومنا هذا …

هذه التساؤلات واخرى يمكن فهمها وتبريرها بسبب المعرفة البسيطة والغير كافية لمؤلفات آباء الكنيسة العرب عامة، وغالبا ما تكون غير معروفة على الاطلاق. اكيد، اذا نظرنا لعددها، فان مؤلفات الادب العربي المسيحي واسعة وغنية. لكن القليل جدا من مخطوطاتها قد ُأطلع عليها، حُللت، او نُشرت. قليل جدا ما يُعرف عن المحتويات العامة لها.

عن هذه التساؤلات الثلاثة نجيب تباعا، قاسمين حديثنا الى ثلاثة اقسام، فسنتعرض:

1- في القسم الاول اسماء اللاهوتيين العرب البارزين، واهم تآليفهم اللاهوتية.
2- في القسم الثاني ميزات هذا اللاهوت العربي.
3- في القسم الثالث والاخير نتحقق من اهمية هذا اللاهوت العربي بالنسبة الى المسيحيين المعاصرين في البيئة حيث يقطنون.

القسم الاول – اللاهوتيون العرب ومؤلفاتهم

ثلاثة تيارات كان لها تأثير عميق على الانتاج اللاهوتي للكتّاب المسيحيين العرب:

1- تيار آباء الكنيسة التقليدي: اذ ان اللاهوت العربي ما كان في الاساس سوى متابعة للاهوت الآباء اليونان والسريان والاقباط. وهناك بعض نصوص لآباء الكنيسة اليونانية فُقد اصلها ولم تصل الينا الا عن طريق ترجمتها الى اللغة العربية.

2- تيار الفلسفة اليونانية: ان علم اللاهوت العربي قد استفاد كثيرا من “آلة الفلسفة اليونانية”، لا سيما الارسطاطالية منها. ليس فقط لان الباحثين العرب المسيحيين كانوا مهتمين بشكل خاص بدراسة الفلسفة اليونانية ونقلها وترجمتها، بل ايضا لأن المسلمين انفسهم في القرون الوسطى كانوا من المعجبين بعلم اليونان وبفلسفتهم. ان التحديد والدقة للمصطلحات (مادة، جوهر، طبيعة، شخص، انبثاق الخ)، وايضا بعض الأُطر الفكرية (التمييز، المقياس، والجدل) جاءت من التراث الفلسفي اليوناني.

3- علم الكلام الاسلامي: ليست مجازفة التأكيد بان الادب العربي المسيحي انتبه واستفاد من طرق تفكير ومصطاحات خاصة بالاسلام ولا سيما المعتزلة والاشعرية. فهناك تأثير متبادل بين علم اللاهوت المسيحي وعلم اللاهوت الاسلامي.

اين نجد مؤلفات اللاهوتيين العرب؟

عندنا اليوم اربع مجموعات علمية تنشر مؤلفات اللاهوتيين العرب:

الاولى هي مجموعة الآباء الشرقييين Patrologia Orientalis التي تصدر في باريس بادارة العالمين Graffin-Nau.

الثانية، مجموعة الكتّاب المسيحيين الشرقيين (C.S.C.O) التي تصدر عن جامعة لوفان.

الثالثة سلسلة “التراث العربي المسيحي” التي اسسناها مع الاب سمير خليل اليسوعي.

الرابعة سلسلة Recherches التي تصدر عن معهد الآداب الشرقية التابع لجامعة القديس يوسف في بيروت.

يرتقي هذا الانتاج اللاهوتي العربي عموما الى اواسط القرن الثامن الميلادي ويهيمن عليه القديس يوحنا الدمشقي، المتوفى حوالي 749 والذي كان يتقن اللغة العربية ولا شك، لكنه لم يكتب الا باليونانية. على انه كان اول من تطرق للحوار الاسلامي-المسيحي. فكان يحرض تلاميذه على الكتابة باللغة العربية. ان اقدمهم عهدا هو تلميذه ثاودورس ابو قرة. هذا يدلنا على مشاركة ثقافية دينية بين المسيحيين الذين استعربوا والمسيحيين العرب في شتى القبائل العربية التي نزحت عن الجزيرة العربية الى الشمال وتنصرت، مما ادى ايضا الى نشوء لهجة عربية خاصة بالمسيحيين، دخلت في تركيبها اللغات الاصلية القديمة، لا سيما السريانية منها.

كان الهدف من التأليف الديني المسيحي باللغة العربية الرد على اعتراضات المسلمين، وتشجيع المسيحيين على الثبات في دينهم. فكان الكتّاب المسيحيون يركزون على النقاط التي تبدو ضعيفة في الاسلام. ويستندون الى الفلسفة اليونانية التي اخذ المسلمون بعد المسيحيين يجلونها، كما يستندون احيانا الى القرآن نفسه ليثبتوا صحة الدين المسيحي. وبذلك يوقفون تيار الاغتراب والهجرة عند المسيحيين او الارتداد الى الاسلام. اما اذا كتبوا لابناء ملتهم، فهدفهم الاول كان تلقين رعاياهم اصول الدين المسيحي. وفي كل الاحوال كانوا يتجنبون المماحكات الطائفية، ويُبرزون وحدة العقيدة المسيحية بالرغم من اختلاف التعابير الفلسفية المستعلمة. وكثيرون منهم وضعوا رسائل وكتبا في هذا المعنى، كذاك الكاهن الملكي نظيف بن يمن، من أئمة اللاهوتيين في القرن العاشر، الذي كتب “مقالة في ماهية اتحاد النصارى”، او ذاك الكاتب السرياني علي بن داود الارفيدي في بحث له بعنوان “كتاب اجتماع الامانة” وهو من لاهوتيي القرن الحادي عشر.

يوحنا الدمشقي

جدير بالذكر ان الانتاج اللاهوتي للكتّاب العرب المسيحيين تطور في عصره الذهبي على مرحلتين اساسيتين:

الاولى: تبدأ حول سنة 750 وتنتهي حول سنة 900.

والثانية: تبدأ حول سنة 900 – وبوجه التحديد مع ظهور يحي بن عدي – وتدوم حتى سنة0 105. ثم يتابع اللاهوت العربي تطوره – او بالاحرى انحطاطه – حتى الفتح العثماني.

في المرحلة الاولى، يبدو الانتاج اللاهوتي مرتكزا بنوع خاص على الاعتبارات التقليدية، من لجوء الى الكتاب المقدس واقوال آباء الكنيسة. اما في المرحلة الثانية فتسيطر عليه النزعة الفلسفية، اذ يلجأ اللاهوتيون الى الاستعانة بتعاليم الفلسفة اليونانية وبعض الآراء الاسلامية نفسها. فمن ثاودورس ابي قرة الى ابن الفضل الانطاكي، ثم من ابي رائطة الى ابن زرعة، يلاحظ تطور نوعي متميز.

في المرحلة الاولى، عدد كبير من المؤلفات التي لا يُعرف حتى الآن اسم واضعها. أما اللاهوتيون البارزون في هذه المرحلة فهم من بين الملكيين يوحنا الدمشقي وثاودورس ابو قرة، اسقف حران. ومن بين اليعاقبة ابو رائطة وتلميذه نونا النصيبيني. ومن بين النساطرة الجاثليق طيموتاوس الاول ومؤلف دفاع الكندي. اما عند الاقباط فلا نجد في هذه المرحلة تآليف لاهوتية باللغة العربية، لثبات استعمال اللغة القبطية في وجه اللغة العربية. ثم يعود الاقباط الى احتلال مركز الصدارة في اللاهوت العربي مع بداية القرن العاشر حيث نجد عندهم اللاهوتي الكبير ساويروس بن المقفع.

في المرحلة الثانية، نجد عند اليعاقبة يحي بن عدي، وعليا بن زرعة، وابن سوار. وعند الملكيين ابن يمن وابن الفضل. وعند النساطرة جرجس الموصلي وابن الطيب النصيبيني والجاثليق ايليا الاول. يُضاف الى هؤلاء الكتّاب عدد من المؤلفات التي لا يُعرف مؤلفها، مثل “شرح الامانة الارثوذكسية” لاحد الكتّاب الملكيين، وتفسير البسملة لاحد الكتّاب اليعاقبة، ومقالة في تثليث الاقانيم لكاتب نسطوري.

نستطيع ان نقسم الانتاج اللاهوتي العربي الى ثلاثة اقسام: 

• يتضمن القسم الاول المناظرات أي الجدالات العلنية بين علماء مسيحيين وعلماء مسلمين. وهي تنشأ غالبا بمناسبة لقاءات مع خلفاء او أمراء او علماء، ثم تسجل كتابة مع شيء من التصرف. 

• ويتضمن القسم الثاني الرد على كتب او مقالات تستهدف الطعن في احدى العقائد المسيحية.

• اما القسم الثالث فيتضمن الى جانب انتقاد الاسلام وعقيدته شرح العقيدة المسيحية، يُضاف الى كل ذلك بعض المقالات الموضوعة للرد على اليهود.

اولا: أدب المناظرات

نشأت المناظرات بين علماء المسيحيين وعلماء المسلمين انطلاقا من لقاءات واقعية او خيالية بين بعض الرؤساء الروحيين والحكام المسلمين.

جرت اولى هذه اللقاءات يوم التاسع من أيار سنة 639، عندما استدعى عمرو بن العاص البطريرك الانطاكي اليعقوبي يوحنا الاول (635-648) لمقابلته. فكان لقاء وديا تعرف من خلاله القائد العربي على اهم عقائد النصرانية، دون أي جدال بين المتحاورين، اذ اكتفى البطريرك بشهادة واضحة عن الثالوث الاقدس. وقد بلغتنا وقائع هذا اللقاء في رسالة سريانية فقط.

ثم التقى عمرو بن العاص، سنة 643، البطريرك القبطي بنيامين الاول، وكان البيزنطيون قد نفوه، فاعاده عمرو بن العاص الى كرسيه الاسكندري، والتمس بركته على جيوشه المحاربة في القيروان.

وبعد نحو خمس عشرة سنة جرت مناظرة في موضوع الايمان بدمشق حضرها معاوية بالذات بين رهبان موارنة والبطريرك الانطاكي اليعقوبي ثاودوروس (649-667)، يرافقه الاسقف ساويروس سابوخت. وحول سنة 670 نرى راهبا نسطوريا من دير بيت هالة يُدعى ابراهيم، ويؤلف باللغة السريانية مقالا يتضمن جدالا لاهوتيا بين مسلم ومسيحي.

ان اقدم المقالات العربية المسيحية الدفاعية وردتنا في مخطوطين من اواسط القرن الثامن للميلاد، مكتوبين على ورق البردي ومحفوظين اليوم في جامعة هيدلبرغ في المانيا وفي فيينا، ويتضمنان حوارا بين مسيحي ومسلم على غرار الحوارات المنسوبة الى يوحنا الدمشقي والتي جرت في العاصمة الاموية. والاغلب ان كاتبها من الملكيين.

تبقى لهجة الحوار، في تلك المناظرات، منطقية ومهذبة، بخلاف ما ورد على لسان بغض الشهداء، امثال بطرس اسقف مايوما، من كلام عنيف وجارح بحق العقائد الاسلامية.

وعندنا احيانا مناظرات عنيفة من مثل “خبر يوحنا الرهاوي” الذي اضطر الى ان يجادل بحضور الخليفة هارون الرشيد عدوا لدودا للمسيحيين هو اليهودي فنحاس.

وحول سنة 767 نرى الجاثليق حنانيشوع الثاني يجادل بعض علماء المسلمين بحضور الخليفة المهدي (775-785).

وجادل خلفه الجاثليق طيموتاوس الاول الكبير، حول سنة 788، الخليفة المهدي نفسه. وكانت هذه المناظرة اعمق واكثر شمولا مما عرفناه من أدب المناظرات بين المسيحيين والمسلمين. وتشهد رسائل هذا الجاثليق عن مناظرة له مع فيلسوف مسلم من مذهب ارسطو. وهناك مناظرة ذات طابع شعبي اجراها الراهب جبرائيل الطبراني مع الامير عبد الرحمان بن عبد الملك بن صالح. ويشهد لنا انطون الخطيب (المتوفى حول سنة 850) ان تلك المناظرات الدينية كانت احدى هوايات الاندية الثقافية في بغداد على عهد المنصور، ومثالنا على ذلك مناظرة ابي زكريا ونحا مع المؤرخ الشهير ابي الحسن علي المسعودي سنة 925.

حول سنة 975، دُعي ساويروس بن المقفع اسقف الاشمونين الى مجادلة الحاخام موسى بن العازر. وفي 14 تموز 1026، اجرى المطران ايليا النصيبيني حوارا مع العلماء المسلمين في شتى المواضيع الدينية والثقافية بحضور الوزير ابي قاسم الحسين بن علي المغربي. وقد تلا ذلك مراسلة بين الاسقف المذكور والوزير عينه حول مواضيع ثقافية شتى.

وقد جرت في القرون التالية، مناظرات عديدة بين علماء النصارى وعلماء المسلمين، نتج عنها جو من الاحترام المتبادل، كان العامل الاساسي في المبادلات الفكرية بين عالمين. فالنصرانية تأثرت ثقافيا بالفكر الاسلامي، كما تأثر الفكر الاسلامي بالفكر المسيحي.

ثانيا: أدب الرد على المخالفين

أول من رد على انتقادات المسلمين كان القديس يوحنا الدمشقي نفسه (نحو سنة 675-749). فقد بلغنا منه عدد لا بأس به من مقالات الجدل الديني. لا ندري ان كان كتبها بالاصل باللغة اليونانية، ام باللغة العربية ثم ترجمت الى اللغة اليونانية. على ما يسترعي الانتباه هو وجود كتاب من تأليفه باللغة العربية بعنوان “رد على المسلمين”، قيل انه كان محفوظا تحت رقم 586 من مجموعة المخطوطات العربية التي كانت تملكها اسرة بيت باسيل في حلب، الا ان المخطوطة مفقودة حتى الآن.

وعندنا في مكتبة جبل سيناء، في المخطوطة رقم 434، رد مختصر على انتقادات المسلمين بعنوان “مسائل واجوبة عقلية والهية”، وهو من وضع أحد الرهبان من الارض المقدسة لم يُذكر اسمه. ونجد، في المخطوط رقم 1324، من مجموعة الاب سباط أربع مقالات لثاودورس ابي قرة يرد فيها على اعتراضات المسلمين، وهذه عناوينها:

1- الرد على الذين يقولون ان النصارى يؤمنون بإله ضعيف.
2- رد على الذين يقولون ان كلمة الله مخلوقة.
3- تحقيق دين النصارى.
4- مجموع من نبؤات الانبياء لتوطيد وتحقيق تجسد المسيح وصلبه.

ومن بعده نجد عبد المسيح أبا نوح بن الصلط الانباري (توفى مطلع القرن التاسع) يؤلف مقالا بعنوان “تفنيد القرآن”. ومن معاصريه ابو الفضل علي بن ريان النصراني الذي وضع كتابا بعنوان “كتاب البرهان” ينتقد فيه النبي العربي والقرآن والاسلام.

ونجد في اواخر القرن التاسع، ردودا شهيرة ثلاثة، وهي: “كتاب البيان” للراهب افسطاسيوس، ورد عبد المسيح بن اسحق الكندي على عبدالله بن اسماعيل الهاشمي، ورد قسطا بن لوقا على ابن المنجم، ورد حنين بن اسحق على ابن المنجم ذاته.

ونجد في تلك الحقبة من التاريخ كاتبا قاسيا كان قد اهتدى الى المسيحية من الاسلام واسمه الواضح بن رجاء، وقد حفظ لنا المخطوط رقم 1004 من مجموعة الاب سباط اربعة مؤلفات دعاها “الكتاب الواضح” و “الادانة في تناقض الحديث” و “نوادر المفسرين وتحريف المخالفين” و “كتاب هتك المحجوب”.

وهناك من اواخر القرن العاشر الميلادي “كتاب الرد” للراهب النسطوري قرياقوس بن زكريا الحراني. ومن اواخر القرن العاشر ايضا راهب نسطوري اخر هو يوحنا بن ابي الصلط واضع “كتاب الاقناع” و “كتاب البرهان”. ففي الكتاب الاول يرد على اليهود، وفي الكتاب الثاني يرد على الاسلام.

لكن اكبر لاهوتي وفيلسوف في هذا المجال هو ولا شك يحيى بن عدي، واسمه الكامل ابو زكريا يحيى بن عدي بن حامد بن زكريا التكريتي. ولد في تكريت، سنة 893، وجاء بغداد وتتلمذ لابي بشر متى بن يونس، كما انه تتلمذ ايضا لابي نصر الفارابي. ولنا منه مؤلفات عديدة في الرد على اعتراضات المخالفين.

حول سنة 845، كتب الكندي انتقادا للعقيدة المسيحية فرد عليه يحيى بن عدي. ومع الكندي نجد لاهوتيا وفيلسوفا مسلما من مذهب المعتزلة اسمه الوراق، ترك لنا تفنيدا للفرق المسيحية الثلاث، اعني بها الملكيين واليعاقبة والنساطرة، فرد عليه يحيى بن عدي.

وكان ليحيى بن عدي تلاميذ منهم ابو علي عيسى بن زرعة واضع مقالات ثلاث للرد على اعتراضات المخالفين.

وقد وجدنا مقالات دفاعية اخرى بين مؤلفات يحيى بن سعيد الانطاكي من كتّاب النصف الاول من القرن الحادي عشر.

ونلاحظ في جميع تلك المقالات الدفاعية استمرار جو السلام والامان وشيئا من حرية الفكر في المجتمع الاسلامي الذي سمح للكتّاب النصارى ان يردوا على مخالفيهم دون ان يتعرضوا للاضطهاد، الا في ما ندر.

ثالثا: المؤلفون اللاهوتيون

ان الذين كتبوا مقالات الدفاع عن المعتقد المسيحي او ردوا على انتقادات المخالفين، استهدفوا قبل كل شيء درء اخطار كانت تهدد الكيان المسيحي. اما اللاهوتيون فيعكفون على شرح العقيدة المسيحية للمؤمنين من ابناء رعاياهم. وقد امتاز بينهم يوحنا الدمشقي.

يعتبر منصور بن سرجون، وهذا اسمه الاصلي في العالم، آخر الآباء اليونان واول اللاهوتيين العرب، فإن له فضلا كبيرا في وضع المصطلحات الفلسفية واللاهوتية. لقد وضع تآليفه باللغة اليونانية الا انه حرض نلاميذه على الكتابة باللغة العربية. ومن اشهر تلاميذه ثاودورس ابو قرة، اسقف حران، الذي وضع مقالات كثيرة حول العقائد المسيحية لافادة المؤمنين. ونستطيع القول ان الملكيين كانوا اول من فتح اللغة العربية للتآليف اللاهوتية. وقد جاء بعده بقليل الكاتب اليعقوبي حبيب بن خدمة ابو رائطة التكريتي، وله مؤلفات كثيرة في شت ىالمواضيع اللاهوتية. ونجد في القرن التاسع اسماء ثلاثة لاهوتيين آخرين، هم ابو الفرج سعيد بن علي الانباري، وابو العباس عيسى بن زيد بن ابي مالك، وابو عيسى بن هبة الله. وهناك مقال لا نعرف اسم واضع عنوانه: “الجامع وجوه الايمان بتثليث ووحدانية الله الكلمة المتأنس”.

عندنا من القرن الثاني عشر كتاب بعنوان: “اعتقاد النصارى المستقيمي الامانة”. وحول سنة 944، وُضع كتاب “البرهان” الذي نُسب خطأ الى القديس اثناسيوس الكبير، ولعله من وضع سعيد بن البطريق. وعندنا من القرن العاشر لاهوتي ملكي هو الكاهن ابو علي نظيف بن يمن، صاحب “مقالة في ماهية اعتقاد النصارى”.

كما نجد عند النساطرة اسرائيل بن كشكر وجرجس متروبوليت الموصل، وكتبا اخرى لم تبلغنا اسماء مؤلفيها، اشهرها كتاب “الامانة الارثوذكسية تضاد للامانة الاريوسية”. وفي صفوف الاقباط يبرز اسم ساويروس بن المقفع، اسقف الاشمونين. وبين النساطرة اسم الكاهن ابي الفرد عبدالله بن الطيب، وايليا اسقف نصيبين. اخيرا نجد كاتبا موسوعيا من ابناء الكنيسة الملكية هو عبدالله بن الفضل الانطاكي الذي نقل الى العربية كتبا عديدة عن اليونانية.

وفي سنة 1940، نشر المرحوم الاب قسطنطين الباشا كتابا بعنوان: “تفسير قانون الايمان لآباء المجمع النيقاوي”، نسبه الى “المجدلوس”، وقال انه اسقف ملكي على مدينة دياربكر. الا ان النقد الحديث اثبت ان واضع هذا الكتاب انما هو كاهن قبطي اسمه الحقيقي ابو المجد بن يوانس. وهناك كاتب ملكي اخر اسمه بشمر بن السري. وأنّا نجد بين مؤلفي القرن العاشر عمار البصري الذي كتب خلاصة المعتقد المسيحي بعنوان: “اصول الدين المسيحي”، وكاتبا نسطوريا آخر اسمه ماري بن سليمان الذي وضع كتاب: “المجدل للاستفسار والجدل”.

اخيرا نجد عند الاقباط المؤتمن ابا اسحق بن العسال (المتوفى سنة 1260)، الذي ترك لنا كتابا نفيسا بعنوان: “مجموع اصول الدين ومحصول مسموع اليقين”. كما نجد من اواخر القرن الحادي عشر “كتاب اعتراف الآباء”، وهو مجموعة الرسائل التي تبادلها البطاركة الاقباط واليعاقبة. ونضيف الى اللاهوتيين الذين ذكرناهم بولس البوشي القبطي،والراهب يوحنا الانطاكي، اسقف صيدا الملكي.

واذا كنا قد استفضنا في ذكر الكتبة اللاهوتيين العرب، فما ذلك الا لنعطي فكرة بدائية عن غزارة هذا الانتاج اللاهوتي بين الكتّاب العرب المسيحيين. انه ادب غزير عالي المستوى، يستحق كل اعتبار وعناية وتقدير من قِبلنا في حين يكاد ان يكون نسيا منسيا في بلادنا.

القسم الثاني – ميزات اللاهوت العربي

بعد ان استعرضنا اسماء كبار اللاهوتيين المسيحيين العرب، نطرح السؤال التالي: ما هي ميزات هذا اللاهوت العربي؟

ان له ميزات وخصائص جديرة بان تسترعي الانتباه، نلخصها بالاعتبارات التالية:

1- من حيث الوضع اللغوي: نجح اللاهوتيون العرب في ايجاد مصطلحات فلسفية ولاهوتية تتناسب وعلم الكلام الاسلامي، واغنوا اللغة العربية بمصطلحات مبتكرة، ساعدت الى حد كبير في التقارب بين الافكار المسيحية والاسلامية، واتاحت لعلماء الدين، من مسيحيين ومسلمين، ان يتحاوروا بلغة علمية مشتركة. بفضل هؤلاء اللاهوتيين العرب المسيحيين، امكن ادخال الفكر اليوناني الى العالم العربي، وبصورة خاصة الفكر الارسططالي.

هذا من حيث المصطلحات الفلسفية، اما من حيث اللغة والبيان، فقد كتب اللاهوتيون العرب المسيحيون بلغة عربية سليمة، خالية من الشوائب، لا سيما من لكنة الكتب الطقسية، لانهم حين كانوا يترجمون الاسفار المقدسة او الكتب الطقسية، كانوا يتقيدون بالحرف، لذا جاءت تراجمهم غاية في الركاكة، اغلب الاحيان. اما عندما كانوا يؤلفون كتبا علمية او فلسفية او دينية، فكانت لغتهم بمنتهى الفصاحة، أُسوة برفاقهم العلماء المسلمين. فعندما نطالع مؤلفاتهم يُخيل الينا أنّا نطالع الغزالي او غيره من فقهاء الاسلام.

2- من حيث البيئة: استفاد اللاهوتيون العرب المسيحيون من حرية الفكر النسبية التي سادت في العصر الاموي والعصر العباسي الاول، اذ نرى اللاهوتيين العرب المسيحيين يجادلون اترابهم المسلمين بكل حرية وأمان، مما قد لا ننعم به الآن في القرن العشرين. كانت المناظرات شبه يومية، وكثيرا ما كان يحضرها الخليفة نفسه او كبار رجال الدولة، بشرط واحد ان يتجنب كلا الطرفين التهجم والتحقير.

3- اعتمد اللاهوتيون العرب المسيحيون، لقاء هذه الحرية الفكرية النسبية التي كانوا يتمتعون بها، نمطا من الجدل والرد يتسم بالاحترام العميق للشعور الديني السائد في الاوساط الاسلامية. لا شك في ان بعض المؤلفات الدينية المسيحية لا تتقيد بهذه القاعدة، الا انها نادرة نسبيا.

4- اللاهوت العربي المسيحي بمجمله لاهوت تقليدي مستوحى من لاهوت الآباء القديسين، اليونان منهم والسريان. لم يأت اللاهوتيون العرب المسيحيون بمبتكر جديد. الا انهم تميزوا بالتعمق في المواضيع الاكثر حساسية بالنسبة الى العقيدة الاسلامية، فخصصوا مؤلفات عديدة لموضوع التوحيد والتثليث، وتجسد كلمة الله وطبيعتي السيد المسيح.

5- اللاهوت العربي المسيحي هو في مجمله لاهوت دفاعي، اعني انه يلتزم بواجب الدفاع عن صحة الدين المسيحي والرد على المخالفين. نادرا ما نعثر على شرح مستفيض للعقيدة المسيحية كاملة في مؤلفاتهم، لانهم كانوا يعتبرونها مسألة داخلية جديرة باهتمام المسيحيين فقط دون سواهم. وينتابنا الذهول ازاء عُمق تفكير هؤلاء اللاهوتيين العرب المسيحيين وبُعد اطلاعهم على الفكر الاسلامي.

6- يولي اللاهوت العربي المسيحي اهمية كبرى للحُجج الدامغة والبراهين الساطعة المرتكزة على العقل وحده، لأن اللجوء الى آيات الكتاب المقدس ونصوص الآباء القديسين لا يُجدي في محاورات مع من لا يؤمنون بها، من مسلمين ويهود. وكأني بهؤلاء اللاهوتيين يبذلون قصارى جهدهم، واحيانا مع شيء من المغالاة، لمحاولة اثبات صحة المعتقد الديني المسيحي استنادا الى قواعد المنطق الفلسفي لا غير.

7- اللاهوت العربي المسيحي لاهوت مسكوني بكل معنى الكلمة اذ نادرا ما يتباحث اللاهوتيون بعضهم مع بعض في مختلف الامور التي تفرق بين الملل المسيحية، الا انهم يكتفون في معظم الاحيان بالشهادة للمسيح دون التبحر في المواضيع المذهبية. عندنا في تراثنا العربي المسيحي عشرة مؤلفات على الاقل، حررها لاهوتيون عرب ليثبتوا ان الفِرَق المسيحية متفقة كلها على جوهر العقيدة، انما الاختلاف يكمن في التعبير الفلسفي عن العقيدة الواحدة، وهذا ما يدعو الى الاعتزاز والفخار من قِبَل علماء اللاهوت المعاصرين في ايامنا.

8- يحاور اللاهوت العربي القديم اليهود والمسلمين معا. اذ كان لليهود في الشرق العربي، جاليات كثيرة، تحمّل المسيحيون منها كثيرا من التحرشات والأذى، فيحاورهم المسيحيون انطلاقا من الكتاب المقدس الذي يؤمن به كلا الطرفين. الا ان رد الفعل من قِبَل المسيحيين ازاء اليهود لم يكن بمستوى الاحترام الذي يعامل به المسلمون.

القسم الثالث- فائدة اللاهوت العربي المسيحي للحوار الديني في عصرنا

يتوارد الى ذهننا هذا السؤال: هل للاهوت العربي المسيحي القديم هذا اهمية وفائدة في عالمنا المعاصر؟… ام انه مجرد مجهود علمي تاريخي…؟

في اعتقادنا انه لا يجوز اغفال هذا الانتاج اللاهوتي القديم في تعليمنا الجامعي للاهوت. فهو ليس فقط مدعاة للاعتزاز والفخار، بل هو انتاج علمي غزير، يصلح لعصرنا كما للعصور السالفة. ان اللاهوت الذي نلقنه اليوم لطلابنا الاكليريكيين لاهوت غربي بتعابيره ومضمونه، نلقى دروس اللاهوت في معاهدنا الاكليريكية في الشرق الاوسط كما لو كنا في روما او باريس او نيويورك. لاهوتنا بعيد بعدا شاسعا عن اللاهوت العربي الذي تشرّب منه ايمان اسلافنا في هذه البلاد، وتحاوروا به مع مواطنيهم المسلمين. فكان من المستحسن ان نقتبس عنهم الاسلوب الهادىء للتحاور، بكل تجلة واحترام مع مواطنينا المسلمين، في جو من الامان والحرية، وتفهم عميق لعقيدة الطرف الآخر.

ان اعتراضات مواطنينا المسلمين على معتقدنا المسيحي هي هي نفسها اليوم كما كانت عليه في سالف الايام. لذا يجدر بنا ان نتشبع من تعاليم اسلافنا العرب الذين الموا تمام الالمام بمعرفة العقيدة الاسلامية، ونستفيد من خبرتهم الواسعة. فنبتكر بذلك اسلوبا جديدا لتدريس اللاهوت المسيحي الذي يصبح مدعاة فعّالة لترسخنا كاملا في البيئة العربية حيث نعيش.

هذا لا يمنعنا من التحري عن آفاق جديدة لتلقين اللاهوت المعاصر لطلابنا الاكليريكيين، وهي آفاق تجمع بين القديم والحديث، في نظرة شاملة، للعقيدة المسيحية، عبر مختلف الاديان والمذاهب والتيارات، ينصهر فيها القديم والحديث في بوتقة واحدة، ورائدنا دوما التعلق بشخصية المسيح الذي رغب في ان يتجسد في كل قطر، وعبر كل ثقافة انسانية جديرة بهذا الاسم.