Search

القديستان تشكلان بركة وتحدي وأمل

القديستان تشكلان بركة وتحدي وأمل

فيما يلي النص الكامل للكلمة التي ألقاها البطريرك فؤاد الطوال، بطريرك القدس للاتين، خلال القداس الاحتفالي الذي ترأسه في بازيليك مريم الكبرى في روما، شكراً وحمداً على إعلان ماري ألفونسين غطّاس ومريم ليسوع المصلوب قديستين للكنيسة الكاثوليكية الجامعة:

الإخوة الأساقفة الأجلاء؛ الإخوة الكهنة الأعزاء؛ الأخوات الراهبات الفاضلات؛ الأم إينييس اليعقوب، الرئيسة العامة لرهبانية الوردية؛ الأم آن فرانسواز، رئيسة دير الكرمل في بيت لحم ومنسقة أديرة الكرمل في الأرض المقدسة؛ الأب سافيريو كانيسترا، الرئيس العام لرهبانية الكرمليين الحفاة؛ أيها الأبناء المباركون؛

أرحب بكم جميعاً، هنا في روما، أنتم القادمين من الأرض المقدسة والأردن ولبنان والشرق، من فرنسا وإيطاليا ومن بلاد المهجر. أنتم أصدقاء الأرض المقدسة ومحبيّ السلام في العالم كلّه. أهلاً بكم جميعاً للمشاركة في قداس الشكر هذا، هنا في قلب روما. بهذه المناسبة نشكر كل من ساهم في إحياء حفلة التقديس هذه. ونشكر اللجان الأربعة التي عملت بكل فرح. كما ونشكر رهبانيتي الوردية والكرمل اللتين منحنا الرب من خلالهما هاتين القديستين. إنهما هدية من الله للأرض المقدسة ولكل الشرق الأوسط وللعالم. هما هدية كنيسة أورشليم، الكنيسة الأم للعالم المسيحي. قديستان تشفعان فينا وفي شعوبنا وفي بلادنا. قديستان تحاميان عن مؤمنينا وعن راهباتنا وكهنتنا وكل المكرسين.

عشنا قبل ست سنوات يوماً مليئاً بنشوة روحية عارمة، عندما أعلنت الكنيسة تطويب تطويب أمة الله ماري ألفونسين ابنة الأرض المقدسة. واليوم فإن إعلان قداستها، برفقة ابنة بلادنا ومعاصرتها الأخت مريم ليسوع المصلوب الكرملية، قد منحنا يوماً ثانياً مهماً في تاريخ الأرض المقدسة.

كثيرون منّا لا يزالون يذكرون أيضاً، وبتأثر شديد، إعلان البابا القديس يوحنا بولس الثاني، الأخت مريم بواردي الكرملية، طوباوية في روما قببل إثنين وثلاثين عاماً، في 13 تشرين الأول 1983. وفي العظة التي ألقاها أثناء حفل التطويب، تحدث البابا القديس عن فضائل مؤسسة دير الكرمل في بيت لحم قائلاً: “إن محبتها للمسيح كانت قوية كالموت؛ فالتجارب الأكثر قسوة لم تستطع أن تطفئه، بل أنها طهّرت هذا الحب ومنحته المزيد من القوة. لقد أعطت هذه الراهبة كل شيء من أجل حبّها للمسيح… كانت جُلّ حياتها ثمرة للحكمة الإنجيلية السامية التي يغني بها الله الفقير والمتواضع، ليخزي الأقوياء”.

أيها الإخوة والأخوات، في صلاة الشكر هذه هنا في روما، سنقتصر في عظتنا على سؤلا وجواب. اما السؤال فهو: من هو العظيم في نظر الناس ومن هو العظيم في نظر الله؟. في نظر الناس، العظماء هم أصحاب القوة: السياسيون وقادة الجيوش والملوك والرؤساء. هم أيضاً الأغنياء الذين يملكون الثروات الهائلة ويصرفونها على هواهم. هم أيضاً العلماء والمخترعون والأذكياء والمتعلمون والمتفوقون في مجالات الهندسة والطب والتكنولوجيا. هم أيضاً الرياضيون الذين حصدوا الأوسمة والذين وُهبوا الجمال الدنيوي وكمال الأجسام.

أما قديستانا الجديدتان فلم تملكا أياً من المقاييس السابقة. لم تملكا الغنى ولا القوة ولا العلم ولا الجمال الدنيوي، ولكن جمال نفسيهما انعكس على وجههما فاتشحتا بمسحة روحية جذبت إليهما قلوب كل من عرفهما. فقد ولدتا فقيرين وماتتا فقيرتين، لم تملكا من حطام هذه الدنيا شيئاً. لم تفتخرا يوماً بقوة بشرية ولم تتسلما مقاليد السلطة والسلطان حتى في جمعيتهما الرهبانية، رغم أننا نعلم اليوم بأن الأم ألفونسين قد أسست رهبانية الوردية بإيحاء من الأم السماوية، وأن الأخت مريم ليسوع المصلوب قد وضعت أسس دير الكرمل في بيت لحم. ما كانتا متعلمتين ولم تحصلا على شهادات جامعية. فكانت اللغة العربية لدى الأم ماري ألفونسين ركيكة، بينما كانت الأخت ماري ليسوع المصلوب أمية تماماً. لم تحصلا في حياتهما وسام أو تقدير، وعلى الأرجح أنهما قد نالتا من التجريح والتوبيخ في حياتهما أكثر، لا بل عكس ما استحقتاه.

وبالرغم من قلة مواهبهما البشرية، إلا أنهما تمتعتا بمواهب روحية غنية، جعلت منهما راهبتين فريدتين حقاً. لم تكونا قويتين، ولكنهما بقوة صلاتهما حركتا العالم ونالتا من الرب نعماً ومعجزات في حياتهما وبعد مماتهما، فكانتا مثالاً لنا في الإيمان بالعناية الربانية. والإيمان يكشف لنا المعارف الإنسانية بل واللاهوتية أضعاف ما تكشفه لنا الفلسفة والعقل.

لقد استطاعت الأم ماري ألفونسين بطاعتها للسيدة العذراء أن تؤسس، أو تشارك في تأسيس الجمعية الرهبانية الوحيدة في هذه الأبرشية، وأن تُنشي مدارس للفتيات والأخويات في معظم الرعايا التي خدمت فيها. وقد شكلت هذه المدارس، على بساطتها، نواة ثورة اجتماعية لنتائجها الخيرة في النهوض بالمرأة الشرقية. كما شكلت الأخويات نواة حياة رعوية جديدة في عصرها. اليوم على مثالها وخُطاها، تجاهد راهبات الوردية كي تعشن حياةً موسومة بفضائل مريم، المؤسسة السماوية للرهبنة، ينشأن في الأماكن المقدسة، ومن وحي هذه الديار ينهلن روحانيتهن، يتأملن في أسرار الخلاص ويعملن لنقل بشراه إلى الجميع. يُربين الأجيال في الرعايا جنباً إلى جنب مع الكهنة، في كل البلاد العربية، وأيضاً في المدارس، ويزرعن الأخلاق، الآداب والعلم في نفوس كل الشابات والشبان من مسيحسن ومسلمين دونما تمييز.

أما الأخت مريم ليسوع المصلوب، تلك الراهبة الكرملية المشرقية العربية الأولى التي رفعتها الكنيسة إلى مصاف الطوباويين: مريم بواردي، واسمها في الرهبانية: مريم ليسوع المصلوب، فقد “اختارات كل ما هو صغير، كي يكبر الله فيها، عاشت التواضع في كل شيء، حافظت على كل ما تبقى في قلبها من براءة، كي تعيش دعوة الإنجيل”. إنها واحدة من بنات القديسة تريزا الأفيلية، مجددة الرهبانية الكرملية، وقد سارت على مثال أمها على دروب القداسة والفضيلة، والتأمل والصلاة، وحفظ المشورات الإنجيلية، وتقديس الذات، وفي سنة 1876 أخذت سمات صلب يسوع الخمس تنزف بقوة حتى أنها شعرت بدنو أجلها، لفرط الآلام المبرحة، إلى أن توفيت برائحة القداسة عام 1878 وقد أعلنها قداسة البابا يوحنا بولس الثاني طوباوية في 13-11-1983.

أسست القديسة مريم ليسوع المصلوب دير الكرمل في بيت لحم وعززت تجذر الرهبانية الكرملية من جديد في الأرض المقدسة، حيث كانت قد نشأت أصلاً في القرن الثاني عشر. ومن دواعي سرورنا أن نتذكر بأن تأسيس كرمل بيت لحم قد تزامن مع إعادة إنشاء البطريركية اللاتينية في القدس، وأن من وضع قانون هذه الرهبانية اللاتينية التي ولدت في الشرق، هو سلفنا البطريرك القديس ألبيرتوس الأورشليمي (ألبيرتوس أبو غادر) في عام 1209.

بالفعل، إن الإنسان العظيم في نظر الناس يختلف عن العظيم في نظر الله. لا بل احياناً ما تكون العلاقة معكوسة. ذلك “أن الله اختار ما يعتبره العالم حماقة ليخزي الحكماء، وما يعتبره العالم ضعفاً ليخزي الأقوياء، واختار الله ما يحتقره العالم ويزدريه ويظنه لا شيء، ليزيل ما يظنه العالم شيئاً” (1 كور 1: 26-31).

لقد عاشتا، الأم ماري ألفونسين والأخت مريم ليسوع المصلوب، التواضع بصمتهما وعدم ذكر الخير الذي تصنعانه، باحتمالهما الملاحظات حتى عندما لم تستحقانها، وبطاعتهما الفرحة وبروح الخدمة. وفضيلة التواضع هذه هي أساس البناء الروحي لباقي الفضائل. وبدون الأساس لا يرتفع البناء. ومن أراد أن يبلغ قمة القداسة، وأن يمارس الفضائل العظمى وعلى رأسها المحبة، عليه أن يختفي كحبة الحنطة التي تختفي في الأرض لتعطي ثمراً كثيراً. المتواضع فَرِح، المتواضع مُحب، المتواضع مُطيع، المتواضع عفيف، المتواضع يُحسن الشكر والإعتذار. المتواضع رحيم. ولذلك هو محبوب من الله والشعب.

أيها الإخوة والأخوات، القديسون هم المثال الذي يشدنا لعيش الإنجيل. وهم البوصلة التي تدلنا على الطريق الصحيح لعيش انسانيتنا بكل أبعادها ولبلوغ السعادة يكل مضامينها. والقديسون بشر نجحوا في الحياة، وفقاً لمعايير “النجاح” التي يضعها الله. وما تقديسهم إلا قصة نجاحهم، تكتبها الكنيسة لكل الأجيال. هم أبطال الكنيسة والتاريخ. كلهم شفعاء لنا عند الله. لكن شفاعتهم لا تكون إلا لأمثالهم، ممن عاشوا الإنجيل وتطويباته.

نكرر اليوم السؤال الذي طرحه على نفسه القديس أغسطينوس: “لماذا هم وليس أنا؟”. لماذا نجحوا ولم ننجح نحن؟ لماذا صارت الأم ماري ألفونسين والأخت مريم ليسوع المصلوب قديستين، ولا نصير نحن؟ ماذا ينقضي اليوم لأحمل مثلهما شعلة القداسة؟ إن الذي رفع الأم ماري ألفونسين والأخت مريم ليسوع المصلوب على ذرى المجد والعظمة، قادر أن يرفع كل راهبة وكل مؤمن أيضاً.

إن إعلان قداسة هاتين الراهبتين تشكلان لنا جميعاً بركة وتحديداً وأملاً. فهما بركة تشير إلى أن الله يرافق مسيرة الجماعة المسيحية في بلادنا، ويخصبها، ويحييها بقداسته. وهما يشكلان تحدياً لنا، إذ تدعواننا إلى الارتفاع على مستوى قداستهما بنعمة الله، لتتبارك بنا جميع قبائل الأرض. وهم أخيراً، أمل لنا، في هذه الطروف العصيبة التي تمر بها بلداننا وشعوبنا ومؤمنونا، وتذكراننا أن الكلمة الأخيرة في حياتنا وفي التاريخ هي الله، وهي دائماً كلمة حياة ونور نحملها في قلوبنا لنواصل بشجاعة ورباطة جأش مسيرتنا في بلداننا، وخصوصاً في الشرق الذي أراده الله لنا ميراثاً وأرض دعوة ورسالة وشهادة.

أيها الإخوة المؤمنون، أيها الإخوة الأسافقفة والكهنة والرهبان والراهبات، نهنئكم بهذه الاحتفالات المهيبة، ونشكر وجودكم هنا في روما. سنعود إلى بلادنا ولأهلنا وقد امتلأنا فرحاً وإيماناً ونمواً روحياً. أملي هو أن ألتقي معكم من جديد في لبنان والأردن وفلسطين، لإقامة صلوات الشكر لله على هذه النعمة الكبيرة وهذه البركة وهذا الأمل. فنحن أرض الديانات، ونحن أرض التجسد والفداء، ونحن أرض الشهداء والقديسين. هذا صليبنا وهذا مجدنا. فلنختتم قداسنا بهذه الصلاة:

“اللهم، يا محب البشر، لقد أنعمت على أمتيك المتواضعتين أن تسيرا على درب القداسة، أنعم علينا أن تقتدي بتقواهما الصادقة وتواضعهما العميق وصمتهما الداخلي وأن نحظى بسلامهما الروحي، فنشهد في أرضنا المقدسة والعالم لموت ابنك وقيامته، هو الاله الحي المالك معك ومع الروح القدس، إلى أبد الدهور” (صلاة مستوحاة من القداس الخاص بعيد الأم ماري ألفونسين).

Facebook
WhatsApp
Email