Search

التراث العربي المسيحي القديم

الفصل الثالث

نشأة الادب العربي المسيحي وتطوره

(من مساق المطران بولس ماركتسو “الادب العربي المسيحي” ص 39-43)

أ – كيف ولماذا واين نشأ الادب العربي المسيحي؟

1- جغرافيا وثقافيا:

جغرافيا: نستطيع ان نحدد العالم العربي المسيحي من الشرق الاوسط حتى اسبانيا.

ثقافيا: تلاحمت في هذه الرقعة من الارض ثقافات عديدة قديمة، منها اليونانية والسريانية والقبطية واللاتينية، وفيما بعد الارمنية والغربية. وتشمل الثقافة السريانية الفروع الثلاث: المارونية، والسريانية، والكلدانية والاشورية.

2- الاطار العقائدي والكنسي المسيحي:

عند نشأة الادب العربي كان المسيحيون في الامبراطورية الاسلامية منقسمين من حيث العقيدة الى ثلاث طوائف، التي كانت متفقة بنفس الوقت مع تعاليم المجمع النيقي سنة 325 الذي قال ان السيد المسيح هو ابن الله، ولكنها كانت منقسمة حول الاتحاد بين الطبيعتين الالهية والانسانية في شخص المسيح الواحد نسبة الى اربعة اوجه: الشخصية، الطبيعة، الارادة، والفعل.

أ) من الناحية العقائدية يمكن تقسيم هذه الطوائف الثلاث الى:

(1) النسطورية: وهي الطائفة التي تعترف بان هناك شخصين او اقنومين وطبيعتين في شخص السيد المسيح، ولكنه يمتلك ارادة واحدة فقط وفعل الهي واحد. ويدعى هؤلاء بالنساطرة نسبة الى البطريرك القسطنطيني نسطوريوس الذي حُرم من قِبَل مجمع افسس سنة 431. وقد عاشوا في بلاد ما بين النهرين.

(2) الملكية: وهي التي تؤمن بوجود طبيعتين وشخص او اقنوم الهي واحد في السيد المسيح، وارادتين وفعلين. وقد ساند الملكيون الامبراطور في اعلان هذه العقيدة في مجمع خلقيدونية سنة 451. وهذا هو الايمان الارثوذكسي الكاثوليكي التقليدي. انتشرت هذه الطائفة خاصة في سوريا وفلسطين.

(3) اليعاقبة: وهم الذين يؤمنون بوجود طبيعة الهية واحدة في شخص او اقنوم واحد، وارادة الهية واحدة، وفعل الهي واحد في السيد المسيح وقد دعوا باليعاقبة نسبة الى الاسقف يعقوب البردي. نذكر منهم اليوم (الاقباط في مصر، والسريان في سوريا وفلسطين، والارمن الارثوذكس). اما الموارنة فهم يرتبطون تاريخيا وثقافيا بهذا التيار وبقيت عقائدهم، على ما يبدو، سليمة ومنسجمة مع قرارات المجامع المسكونية. وقد تواجدوا في لبنان.

ب) من الناحية الكنسية:

لم تغير الفتوحات الاسلامية شيئا على التقسيم الكنسي القديم، وقد استمر التمييز داخل الامبراطورية الاسلامية لثلاث مقاطعات كنسية كبيرة هي:

1) البطريركية الاسكندرية: والتي تمتد على امتداد مصر، وهي اكبر الكنائس الشرقية عددا واهمية.

2) البطريركية الانطاكية: والتي تمتد على الجزء الغربي من بلاد ما بين النهرين (الجزيرة)، وعلى سوريا وفلسطين التي منها نشأت البطريركية الاورشليمية.

3) البطريركية المشرقية او الاشورية (كاثوليكوس): والتي تمتد على الجزء الشرقي من بلاد ما بين النهرين (العراق).

ج) من ناحية الانقسام العقائدي:

توجد ايضا في داخل هذه المقاطعات كنائس صغيرة تتبع النظام الخاص بها.

1) في البطريركية الاسكندرية: هناك كنيستان” كنيسة ملكية اقلية، على رأسها بطريرك يقيم في الاسكندرية. وكنيسة يعقوبية اغلبية، على رأسها بطريرك اقام في الاسكندرية ومن ثم انتقل الى القاهرة في القرن العاشر.

2) في البطريركية الانطاكية: هناك ثلاث كنائس: الاولى كنيسة ملكية اغلبية، وتشمل فلسطين وسوريا وعلى رأسها بطريركان، واحد في منطقة انطاكية والثاني في القدس. والثانية كنيسة مارونية اقلية، وتوجد في سوريا، على راسها بطريرك يقيم في ابامي Apamée. والثالثة كنيسة يعقوبية اغلبية، وتوجد في اعالي بلاد ما بين النهرين، وعلى رأسها بطريرك يقيم في منطقة ماردين.

3) في الكنيسة المشرقية: هناك كنيستان: الاولى كنيسة نسطورية اغلبية، على رأسها “جاثليق Catholicos” اقام في منطقة المدائن ومن ثم انتقل الى بغداد من بعد القرن التاسع. والثانية كنيسة يعقوبية اقلية: على رأسها “مفريان Maphriam” يقيم في تكريت.

هذه الفكرة عن تعدد الكنائس وتواجدها في هذه المناطق تسهل علينا فهم الاطار التاريخي والجغرافي لنشأة التراث العربي المسيحي وتطوره. بالاضافة الى هذه الطوائف فالادب العربي المسيحي نشاء ايضا في محيط الكنيسة اللاتينية وثقافتها، ومثال ذلك في الاندلس.

3- الاطار السياسي الديني الاسلامي:
في القرن السابع، برز تيار سياسي وعسكري وديني وثقافي كبير، حيث تم اجتياح الشرق الاوسط قاطبة من الجيش الاسلامي القادم من شبه الجزيرة العربية، ولم يكن القادمون فقط جيشا بل كانوا يحملون في جعبتهم دين الاسلام واللغة العربية.

لا نود الدخول في تفاصيل هذا الدين الجديد ولكننا نلاحظ وجود حركة قوية انذاك كانت تهدف بالدرجة الاولى الى نشر الاسلام، مما وضع امام الجماعات المسيحية مشاكل وعراقيل جديدة، وحثها على التفكير اللاهوتي وعلى العمل الرعوي.

اما الفترة الواقعة ما بين القرنين العاشر والثاني عشر، فقد كانت موسومة بتغيرات مهمة تسببت في انهاء الامبراطورية الاسلامية، وانتقال الحكم الى عائلات مستقلة في مختلف المقاطعات:

1) العراق: العباسيون وقائدهم بوبييد، الذين حلوا مكان السلاجقة العظام.

2) شمال سوريا واعالي بلاد ما بين النهرين: الحمدانيون، المردسيون

3) وسط سوريا: الفاطميون والذين طردوا من قِبَل السلاجقة، ومن ثم الوهابيون.

4) مصر: الطولونيون، ومن ثم الاخشيديون، ومن ثم الخليفة الفاطمي الذي طرد من قِبَل الايوبيين.

ولقد شهدت هذه الفترة حدثين سياسيين مهمين، وهما نتيجة التدخل الاجنبي في البلاد الاسلامية وهما: النصر الذي حققه البيزنطيون على سوريا وشمال ما بين النهرين (انطاكية والرها). واقامة الولايات الصليبية من قِبَل الفرنج في سوريا وشمال بلاد ما بين النهرين، وفلسطين ومناطق اخرى.

اما من الناحية الدينية، فقد نشأت ايضا بعض الانشقاقات والبدع الدينية مثل الحركة البويدية في بغداد، والثورة القرامطية في جنوب العراق، واعادة الخلافة الى الفاطميين في القاهرة. وايضا شهدت هذه الفترة نشأة المذهب السني، والذي تزامن مع وصول السلاجقة من العراق في القرن الحادي عشر. ونذكر اخيرا الحركة الايوبية في مصر.

وفي المجال العقائدي الاسلامي، وبعد ردة الفعل العنيفة السنية ضد المعتزلة، كانت هناك محاولات لايجاد اتفاق بين العقلانيين في مذهب المعتزلة والايمانيين في مذهب السنة من قِبَل الاشعري، ومن ثم من قِبَل تلميذه البقلاني. وقد كانت المشكلة الكبرى تكمن في موافقة العقل مع الايمان والفلسفة مع اللاهوت، وقد عالج الغزالي هذه المشكلة في كتاباته.

4- الاطار الثقافي واللغوي

في هذه الفترة لم تكن المدارس اللاهوتية الكبرى موجودة، مثل الاسكندرية، وانطاكيا والرها، ونصيبيين. وفي عهد الفتوحات الاسلامية لم يكن تعليم العلوم الدينية مسموحا الا في الاديرة. وقد كانت هذه الاديرة تحوي في داخلها المدارس التي تشكل المنبع الوحيد للثقافة، وليس فقد الثقافة الدينية بل ايضا العلوم الدنيوية، حيث نشأ الكثير من اجيال الرهبان والعلماء.

وقد احتوت هذه الاديرة على مكتبات عظيمة ومخطوطات عديدة نسخها الرهبان كما كان يفعل معاصروهم من الرهبان الغربيين. ولكن ومع بدء الغزو المنغولي في القرن الثالث عشر، فان الكثير من هذه المكتبات قد تأثرت من جراء الهدم المنغولي والحرق، كما ان كثيرا من المؤلفات قد فقدت. فاننا لم نعرف شيئا عن الكثير من الكتّاب او عرفنا القليل عنهم، لانه قد وجدت بعض المؤلفات في اديرة صحراء سوريا، او في مصر التي كانت الملجأ من امام وجه الهدم المنغولي.

اما اللغة العربية، المستعملة في عدد من القبائل المسيحية، فقد استدخلت تدريجيا بين سكان المناطق المحتلة. وبالطبع فان اللغات القديمة لم يكن اختفاؤها سريعا، لانها بقيت قوية خاصة في الليتورجيا كما بقيت السريانية والقبطية واليونانية لغات العديد من المؤلفات، بالرغم من ان الشعب بدأ باستخدام اللغة العربية الجديدة. ومع انتهاء القرن الاول بعد دخول الاسلام، فان الجماعة المسيحية اعتبرت اللغة العربية لغة رسمية. وذلك خلال التعليم في المدارس والنشاط الثقافي عند العلماء، واعمال الترجمة والقراءات والصلوات في الاديرة. فدخلت اللغة العربية مختلف نواحي الحياة. ولكن هناك سؤال يطرح نفسه ويشكل موضوع عدة دراسات: هل كان هناك أدب عربي مسيحي قبل الاسلام؟ لربما استطعنا التحدث عن التأثرات المسيحية باللغة العربية ولكن عند تحدثنا عن وجود ادب مسيحي قبل الاسلام في فلسطين، فان الامر يزداد صعوبة.

اما فيما يخص اللغة الادبية، فقد طمحت اللغة العربية في ان تحل محل هذه اللغات، مثل اليونانية، القبطية والسريانية. فقد ترك الكتّاب الملكيون الكتابة باللغة اليونانية منذ مطلع القرن التاسع، كما ترك الكتّاب اليعاقبة القبطية بعد القرن العاشر. لذلك لم تعد اللغات اليونانية والقبطية لغات ادب حية، بل لغات ليتورجية ميتة، وقد حلت محلها العربية. ونرى العكس من ذلك في اللغة السريانية، فقد بقي الكتّاب السريان والعراقيون، واليعاقبة والنسطوريون يكتبون ادبهم باللغة السريانية. ولهذا بقيت هذه اللغة لغة ادب وليتورجية حية.

ولقد استعمل الكتّاب المسيحيون في كتاباتهم اللغة العربية الادبية، لغة الكتّاب المسلمين، ولغة الشعر من قبل الاسلام ولغة القرآن. فقد اصبحت هذه اللغة لغة حضارة عظيمة بعد الفتوحات الاسلامية. كما اجاد الكتّاب المسيحيون الكتابة بها مقارنة مع الكتاب المسلمين. وبالرغم من شك البعض في ذلك بسبب ظهور بعض المفردات المحلية والخاصة عند بعض الكتّاب المسيحيين في بعض الفترات، والتي كانت قد وجدت عند بعض الكتّاب المسلمين في نفس الفترة. الاختلاف الوحيد القائم بين الكتّاب المسيحيين والكتّاب المسلمين، هو ان اولئك لم يترددوا في استعمال بعض المفردات والمصطلحات المسيحية البحتة الموجودة في اللغات اليونانية والسريانية والقبطية في الادب العربي.

ولد الادب او اللاهوت العربي المسيحي في منتصف القرن الثامن الميلادي، وبالتحديد حول بعض الاديرة الشهيرة في صحراء اليهودية. ليس من هدفنا البحث عن اسباب لاختفاء اللغات القديمة واستدخال العربية التدريجي ولكن لدينا بعض الملاحظات:

اولا: من المنطقي ان تدخل لغة القوة المسيطرة (الاسلام) عاجلا ام اجلا.

ثانيا: شجع الخلفاء والكتّاب والمفكرون العرب على القيام بالترجمات من اليونانية والفارسية الى العربية، على سبيل المثال مدرسة الحكمة في بغداد.

ثالثا: اصبحت العربية، بقيامها فوق الطائفية والفروقات القومية وسيلة الاتصال، كضرورة للناس في المدن المتعددة الجنسيات، كما في الاديرة.

رابعا: ان عملية انشاء الاديرة، التي استخدمت المتطوعين الجدد من القوميات المختلفة، حيث كانوا يتكلمون بلغتهم الام، لغة صلاة الرهبان في نفس الوقت، هي التي ادت الى اعتبار العربية لغة شاملة تستطيع ان توحد كل اولئك المتطوعين. هذا السبب العملي والرعوي استدعى وجود حركة ترجمة كتابية وروحية ورهبانية، وهي التي رسمت الخطوط الاولى في الادب العربي المسيحي في فلسطين على وجه الخصوص.

خامسا: هذا السبب نعتبره اساسيا لكي نفهم ولادة هذا الانتاج الادبي واللاهوتي المسيحي، وهو الطبيعة الدفاعية التي ستكون النموذج الذي سار عليه هذا الادب، لان المسيحيين امام مستجدات الايمان الاسلامي ووجها لوجه مع التحديات الدينية والثقافية للمسلمين، قد شعروا بالحاجة الماسة لعرض ايمانهم والدفاع عن دينهم، ومن جهة اخرى احسوا بالحاجة الى فهم الدين الجديد بلغته، لذلك انطلقت سلسلة من المقالات الاسلامية-المسيحية، ومن المناظرات الدينية.

ب – تطور الادب العربي المسيحي

من غير السهل ان نحدد فترته، لاننا لا نملك بعد مؤلفا تاريخيا لهذا التراث الغني جدا. ولكننا باطلاعنا على الحوادث التاريخية للشرق وعلى خطوات التراث العربي المسيحي، نستطيع ان نصل الى وضع الخطة التالية:

1. البدايات من 750 الى 850: انها فترة المحاولات الاولى الموسومة بعلامة شعبية، وكتابية.

2. العصر الذهبي من 850 الى 1325: حيث القسم الاول من 850 الى 1050 الفترة المتمركزة في بغداد، انها الفترة الفلسفية والارسطوطالية، اما القسم الثاني فانه متمركز فوق القاهرة حيث نمى هذا الادب لدى الاقباط، الذي كان قمته مع ابن كبار المتوفى سنة 1324.

3. عصر الانحطاط من 1325 حتى منتصف القرن التاسع عشر: كان نور النشاط الثقافي قد بدأ بالانطفاء، وبالاخص بعد سقوط القسطنطينية، وبدأ موت الانتاج الادبي واللاهوتي، ولكن شعلة الثقافة اشتعلت بفضل المستشرقين، المورانة بالاخص، الذين رتبوا ونقلوا مخطوطات العصر الذهبي في الشرق وفي الغرب.

4. عصر النهضة: بسبب دعم المستشرقين وتوطد العلاقات بين الشرق والغرب، بسبب نشاط الجمعيات الرهبانية.