Search

التراث العربي المسيحي القديم

الفصل الثاني

مدخل الى التراث العربي المسيحي القديم

عن محاضرات القاها الاب سمير خليل اليسوعي
(مجلة صديق الكاهن 1983 ومجلة المسرة مجلد 67 سنة 1981 ص. 169-184)

1- جهلنا لتراثنا:

ان التراث العربي المسيحي يكاد يكون مجهولا تماما في جميع الفئات، سواء كانت الفئات الدينية او العلمانية، عند المسيحيين والمسلمين من العرب، شرقا وغربا. ومن الغريب الاليم اني لم اسمع شيئا، خلال حياتي الدراسية في مصر والبلاد العربية عن هذا التراث العربي المسيحي. وقد سمعت عنه للمرة الاولى سنة 1962، اثناء اقامتي في المانيا للبحث عن مراجع عربية واسلامية مخطوطة، فاكتشفت موسوعة جورج غراف Georg Graf “تاريخ التراث العربي المسيحي” Gesschichte der Christichen arabischen literatur التي تحتوي مما يقارب 2400 صفحة.

2- تحديد الموضوع

والمقصود “بالتراث العربي“، كل ما كتب باللغة العربية، سواء كان ذلك موضوعا اصلا باللغة العربية، او مترجما اليها من لغات اخرى. وذلك بصرف النظر عن اصل المؤلف او المترجم، اذ قد يكون روميا او سريانيا او قبطيا الخ. فان جزءا لا يستهان به من التراث العربي المسيحي القديم قد تُرجم (في المرحلة الاولى) من اليونانية او السريانية او القبطية الى العربية.

المقصود “بالتراث المسيحي” هو كل ما الفه المسيحيون باللغة العربية، سواء كان من التراث الديني، او التراث الفلسفي، او الادبي او العلمي. أي ان الموضوع لا ينحصر في اللاهوت او الديانات، وانما يشمل جميع الوان الانتاج الفكري.

والمقصود “بالتراث القديم” الفترة التي تمتد من القرن الثامن الى الرابع عشر.

3- دور النصارى العرب الثقافي في الجاهلية

ان الفكر العربي المسيحي فكر عريق سبق ظهور الاسلام بقرون، ولم يزل حيا حتى اليوم. واليكم بعض مظاهر هذا الفكر في الجاهلية وعلاقته بالحضارة الاسلامية.

1) دور النصارى في نشر الكتابة العربية

من المعلوم ان الكتابات العربية الشمالية التي وصلت الينا كُتبت في بيئة مسيحية، وانها تنحدر من الخط النبطي (حسب الرأي السائد حتى امد قريب) او السرياني. ولا يشك باحث في الاصل المسيحي للخط العربي. وان اقدم الكتابات العربية الشمالية وُجدت على ابواب الكنائس. منها كتابة خرائب زبد، في جنوب شرقي حلب، المكتوبة بثلاث لغات (اليونانية والسربانية والعربية) سنة 512م. ومنها نقش حرّان، باللغتين اليونانية والعربية، المنقوش سنة 568م.
يقول الاستاذ جواد علي، صاحب الموسوعة المشهورة “المفصّل في تاريخ العرب قبل الاسلام” ما نصه:

“ويلاحظ ان الذين كتبوا بالقلم العربي الشمالي، الذي أُخذ منه قلم مكة، هم من العرب النصارى في الغالب. فاهل الانبار، والحيرة، وعين الشمس، ودومة الجندل، وبلاد الشام، كانوا من النصارى. فلا أستبعد احتمال استعمال رجال الدين للقلم السرياني المتأخر، الذي كوّن القلم النبطي في كتابة العربية، لحاجتهم الى الكتابة في تعليم اولاد النصارى الكتابة، وتثقيفهم ثقافة دينية. فكانوا يعلمونها في المدارس الملحقة بالكنائس، وربما نشروها في البحرين، أي في سواحل الخليج، حيث كانت هنالك جاليات نصرانية، وفي الاماكن الاخرى من جزيرة العرب التي كانت النصرانية قد وجدت سبيلا لها بينها. ولا استبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على كتابات مطمورة كتبت بهذا القلم”. (المجلد الثامن ص. 178-179).

وقال ايضا:

“وقد كان للنصرانية اثر مهم في نشر الكتابة العربية، المأخوذة عن الارمية، بين الجاهليين، الكتابة التي تولّد منها قلمُنا الذي نكتب به في الوقت الحاضر. وقد وجد المسلمون، في فتحهم العراق، مدارس عديدة لتعليم الاطفال القراءة والكتابة. كما ان تُجار مكة ويثرب، الذين كانوا يقصدون الشام والعراق، وجدول الضرورة تُحتم عليهم تعلُّم هذا الخط، فتعلموه. ولما نزل الوحي، كُتب كتابة به، فصار قلم المسلمين” (المجلد السادس ص. 689).

2) الشعر والادب العربي المسيحي في الجاهلية

لم تصل الينا المؤلفات المسيحية، سبيلها سبيل جميع مؤلفات الجاهلية، الا المؤلفات الشعرية والحكمية. ذلك لأن التراث العربي الجاهلي تراث شفهي، ولم يدوَّن الا بعد الاسلام. فلم تصل الينا الا تلك المؤلفات التي يسهل حفظها، مثل الشعر والحِكم والخُطب. ومن اشهر شعراء النصرانية عدي بن زيد، المتوفى نحو سنة 587، واشهر خطيب جاهلي قس بن ساعدة، المتوفى نحو سنة 600، واعظ القوم في سوق عكاظ.

وقد جمع الاب لويس شيخو اليسوعي دواوين الشعراء المسيحيين، في كتابه الضخم “شعراء النصرانية قبل الاسلام“، كما انه جمع المعلومات عن النصارى العرب قبل الاسلام، في كتاب “النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية“. الا ان هذين الكتابين يُقرءان بشيء من الحرص، اذ كان الاب شيخو بنسب كثيرا من هذه الاشعار الى شعراء النصرانية دون ان يتأكد تماما من نصرانيتهم. وعلى الباحث ان يقابل ما قاله الاب شيخو بما كتبه الاب كميل حُشمية في نقده لكتاب شيخو.

وقد قدم الدكتور جواد علي لوحة كاملة عن النصارى العرب قبل الاسلام، في موسعته الشهيرة المشهورة “المفصّل في تاريخ العرب قبل الاسلام“. اما عن المسيحية في ديار العرب قبل الاسلام، فلدينا الان مرجع مهم للمستشرق الدكتور تريمنجهام Trimingham.

3) اطباء النصارى العرب قبل الاسلام

ان اشهر اطباء العرب في الجاهلية الحارث بن كلدة الثقفي، المعروف بـ “طبيب العرب”. توفى نحو سنة 13 للهجرة (= 635 م.). أصله من ثقيف، من اهل الطائف رحل الى ارض فارس، واخذ الطب من نصارى جنديسابور. وطبب في بلاد فارس وعالج بعض أجلائهم، فبرئوا. وحصل له بذلك مال كثير. ثم عاد الى بلده الطائف. وكان صاحب حس مرهف، وموسيقيا يضرب على العود، اذ تعلم ذلك بفارس واليمن. وذكر له ابن عبد ربه شعرا، في “العقد الفريد”، وابو العلاء المعري في “رسالة الغفران“. وادرك الاسلام، واتخذه النبي طبيبا. في بعض الروايات انه أسلم، ولكن اسلامه لم يصح على ما ذكر القفطي. وقد نسبوا الى الحارث كتاب “المحاورة في الطب بينه وبين كسرى انو شروان”، دون الاشارة الى مضمونه ومحتوياته وحجمه.

وتبع الحارث ابنه النضر بن الحارث بن كلدة، وهو ابن خالة النبي. قال عنه ابن ابي أُصيبعة:

“وكان النضر قد سافر البلاد ايضا كأبيه، واجتمع مع الافاضل والعلماء بمكة وغيرها، وعاشر الاحبار والكهنة، واشتغل وحصل من العلوم القديمة اشياء جليلة القدر، واطلع على علوم الفلسفة واجزاء الحكمة، وتعلم من ابيه ايضا ما كان يعلمه من الطب وغيره”.

وكان النضر يعادي النبي ويحط من قدره عند اهل مكة، فلما كانت واقعة “بدر”، انتصر محمد وانصاره على اعدائهم، وكان النضر على رأس الاعداء، فوقع اسيرا. فأمر محمد بقتله، سنة 624. فرثته ليلى ابنته (وقيل “قتيلة” اخته) بأبيات، فلما سمعها محمد قال: “لو سمعت هذا قبل ان اقتله، ما قتلته!”.

4) القصص الديني عند نصارى الجاهلية

“ورد اسم رجل ادخل للمسلمين القصص الديني، هو تميم بن أوس ابن خارجة الداري. ذكر انه اسلم سنة تسع من الهجرة، وانه كان نصرانيا، وانه لقي النبي، فقص عليه قصة الجساسة والدجال. وذكر انه كان يترهب، ويسلك مسلك رجال الرهبانية، حتى بعد اسلامه. وانه استأذن الخليفة عمر او الخليفة عثمان في ان يذكر الناس في يوم الجمعة. فأذن له فكان يقص في مسجد الرسول. وكان بذلك اول من قصّ في الاسلام. وروي انه اول من اسرج السراج في المسجد وكان قد قدم مع اخيه نعيم الداري في وفد الداريين على الرسول منصرفة من تبوك. وكان مقامه في الشام، وربما وضع القصص على اسمه”. (جواد علي 8/378)

“ولكننا لا نستبعد ان يكون قد خلط بين القصص النصراني وبين الاساطير العربية. فقد كان نصرانيا، يسمع اقوال وعاظ الكنائس، فتعلم منهم، وطبق ما تعلمه في الاسلام”( نفس المرجع).

وكذلك ذكر الاخباريون ان الاسود بن سريع بن حمير بن عبادة بن النزال التميمي السعدي كان قاصا، كما انه كان شاعرا مشهورا. قال عنه الدكتور جواد علي: “وهو من الصحابة، وكان اول من قص في مسجد البصرة. قبل انه مات سنة اثنتين واربعين (هجريا). ولعله كان من النصارى كذلك” (المرجع نفسه).

5) ترجمة الكتاب المقدس الى العربية ما قبل الاسلام

هل تُرجم الانجيل (والكتاب المقدس عامة) قبل الاسلام؟ هذا موضوع شائك، وقد تضاربت الاراء فيه. ومعلوم انه لم تصل الينا أي ترجمة عربية سابقة للاسلام، الا ان هذا الواقع ليس دليلا على عدم ترجمة الكتاب في الجاهلية. واليك عرض سريع لاهم الآراء. دافع الاب لويس شيخو عن وجود ترجمة في الجاهلية، مؤيدا رأيه بادلة عديدة. وتبعه عبد المسيح المقدسي، في مقال قيم ظهر في مجلة المشرق.

نشر المستشرق انطون باومشتارك Baumstark العديد من المقالات، ابتداء من سنة 1929 حتى سنة 1938، لاثبات الرأي نفسه.
اما جورج جراف Georg Graf، فقد اثبت ان الترجمات العربية التي وصلت الينا لا ترجع الى ايام الجاهلية. ولكنه يفترض وجود ترجمة عربية للكتاب المقدس (او لاجزاء منه) قبل الاسلام.

ذكر الفريد جليوم Guillaume نصا من “السيرة النبوية” لابن اسحاق، يستدل به على وجود ترجمة عربية لانجيل يوحنا في بداية القرن السابع الميلادي.

وعالج ارثر فوبس Voobus الموضوع باختصار، فتوصل الى النتيجة ذاتها التي كان قد توصل اليها جورج جراف. وكذلك فعل رابن Rabin في مقاله عن “اللغة العربية” التي كتبها لدائرة المعارف الاسلامية الجديدة. فأكد ان بعض اجزاء الكتاب المقدس كانت متداولة في الجاهلية، وان واضيعها من النصارى لا من اليهود.

اقدم نص انجيلي باللغة الارامية

وقدم يوسف هننجر Henninger نظرة سريعة عن بعض الآراء، وايد اخيرا رأي جورج جراف.

ثم جاء يوشع بلاو Blau ، فانكر وجود ترجمة عربية للكتاب المقدس سابقة للاسلام، اعتمادا على ادلة لغوية، وردا على رأى انطون باومشتارك.

اما الدكتور جواد علي فيقول: 

“ويظهر من بعض روايات الاخباريين ان بعض اهل الجاهلية كانوا قد اطلعوا على التوراة والانجيل، وانهم وقفوا على ترجمات عربية للكتابين. او ان هذا الفريق كان قد عرّب بنفسه الكتابين كلا او بعضا. ووقف على ما كان عند اهل الكتاب من كتب في الدين. فذكروا مثلا ان (ورقة بن نوفل) “كان يكتب الكتاب العبراني، ويكتب من الانجيل بالعبرانية ما شاء الله ان يكتب”. وقالوا: “وكان امرؤ تنصر في الجاهلية. وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الانجيل بالعربية ما شاء الله ان يكتب”. وذكروا مثل ذلك عن (امية بن ابي الصلت)، فقالوا انه كان قد قرأ الكتب المقدسة، وقالوا مثل ذلك عن عدد من الاحناف” (جواد علي المجلد السادس).

وبعد هذه الامثلة، ابدى المؤلف رأية قال:

“ولا يُستبعد وجود ترجمات للكتاب المقدس في الحيرة، لما عُرف عنها من تقدم في الثقافة وفي التعليم، ولوجود النصارى المتعلمين فيها بكثرة. وقد وجد المسلمون فيها حينما دخلوها عددا من الاطفال يتعلمون القراءة والكتابة وتدوين الاناجيل، وقد برز نفر منهم، وظهروا في علوم اللاهوت، وتولوا مناصب عالية في سلك الكهنوت في مواضع اخرى من العراق. فلا غرابة اذ ما قام هؤلاء بتفسير الاناجيل وشرحها للناس للوقوف عليها. وقد لا يُستبعد تدوينهم لتفاسيرها او لترجمتها، لتكون في متناول الايدي، ولا سيما بالنسبة الى طلاب العلم المبتدئين. وقد لا يُستبعد ايضا توزيع بعض هذه الترجمات والتفاسير الى مواضع اخرى، لقراءتها على الوثنيين وعلى النصارى للتبشير”. (المرجع نفسه).

6) المؤلفات اللاهوتية

نكتفي هنا اختصارا بايراد رأي الدكتور جواد علي في هذا المضمار:

“ولم يترك رجال الدين من النصارى العرب لنا اثرا كتابيا، يُنبيء عن مدى اشتغالهم في علم اللاهوت وفي العلوم الاخرى. غير ان هذا لا يعني ان النصارى العرب لم يخرجوا علماء دين منهم. ولم يعُطوا النصرانية رجلا منهم يخدمها ويقف حياته الروحية عليها. ففي قوائم اسماء من حضروا المجامع الدينية، التي عُقدت للنظر في الامور الجدلية وفي القضايا التي تخص مبادىء الدين، اسماء رجال تُنبىء انهم كانوا عربا. وقد دُونت في محاضر تلك المجالس اسماء المواضع التي مثلوها من بلاد العرب. كما ان بين رجال الدين الكبار الذين نبغوا في العراق من كان اصله من الحيرة، واذ كانت غالبية سكان هذه المدينة من العرب، فلا يُستبعد ان يكون من بين هؤلاء العلماء النصارى الحيريين من كان من اصل عربي” (المرجع نفسه 6).

7) دور النصارى في ادخال الآراء اليونانية والسريانية

يذكر لنا الدكتور جواد علي ان النصرانية:

“كانت عاملا مهما بالطبع في ادخال الآراء الاغريقية والسريانية الى نصارى العرب. فقد كانت الكنيسة مضطرة الى دراسة الاغريقية ولغة بني ارم، لما للغتين من قدسية خاصة نشأت من صلتهما بالاناجيل. وقد كان اثر الارامية اهم في الكنيسة الشرقية من الاغريقية، لكونها لغة الثقافة في الهلال الخصيب في ذلك العهد. ولهذا وجدنا معظم التعابير والمصطلحات الدينية عند نصارى الشرق هي من هذه اللغة، ومنها اخذها النصارى العرب، فصارت عربية”. (المرجع نفسه 6).

ومن اقوى الادلة على تأثير النصارى الديني والحضاري في عرب الجاهلية وفي الاسلام الناشيء… تلك الالفاظ القرانية التي اعتبرها اللغويون دخيلة. وتقسم هذه الالفاظ الى قسمين: الالفاظ الدينية، والالفاظ الحضاري:

أ) الالفاظ الدينية:

ابليس – بيعة – جهنم – حواريون – طوبى – فردوس – انجيل – قدس – مسيح – نصارى – يحي – سلطان – شيطان – صلوات – صوم – قسيسون – وملة – وطُور الخ..

ب) الالفاظ الحضارية:

خمر – كأس – كوب – درهم – دينار – تابوت – سراج – مقلاد الخ.

ج) الالفاظ المرتبطة بالكتابة:

رف – سِجِل – سطَرَ – سفر – وقُرآن – وقرطاس.

وقد ذكر الاب لويس شيخو مفردات اخرى عديدة انتشرت بين عرب الجاهلية تحت تأثير النصارى. 

* * *

يتضح من هذا العرض السريع ان الجزيرة العربية، وان كانت صحراء جدباء، الا انها كانت فكريا خصباء. وقد لعب النصارى دورا هاما في بناء هذا الفكر العربي، وهيئوا الطريق في قلوب العرب لقبول الدعوة المحمدية.