Search

الإتحاد بالله، مسيرة قداسة كهنوتية وفقًا لفكر الأب الكرملي المُكَرَّم ماري أوجين للطفل يسوع

الإتحاد بالله، مسيرة قداسة كهنوتية[1]

وفقًا لفكر الأب الكرملي المُكَرَّم ماري أوجين للطفل يسوع[2]

 * الأب بيير كولونج.

 مقدّمة المترجم

مرّت ولا تزال تمرّ روحانية الكاهن الأبرشي بأزمة في الهويّة، يخلقها لقاء بعض الطلاب الإكليريكيين وبعض الكهنة والمؤمنين بالحياة الرهبانية في مختلف صورها، والروحانيات العظيمة التي انبثقت عنها. وتبقى الصورة السائدة عن الكاهن الأبرشي، بأنه الرجل الذي “وظيفته منح الأسرار وواجبه التحدّث عن الله”، ناهيك عن الدور الإجتماعي والقيادي الذي لا يزال على الكاهن أن يلعبه (بإرادته أو رغمًا عنه) في مجتمعنا الشرقي العربي، حيث الطائفيّة لا تزال مكونًا أساسيًا في النسيج و”المعادلة” الإجتماعية، وحيث الدولة لا تقوم بعد بكامل واجباتها نحو المواطن. فتأتي الكنيسة لتملأ هذا الفراغ.

يغدو التحدّي الرئيسي للكاهن وطالب الكهنوت، سواء عن وعي أو عن غير وعي، في مثل هذه الظروف، هو المحافظة على “نظرة مختلفة” للكهنوت، وهي في الواقع النظرة الأصيلة لهُ، كما تعلِّمُها الكنيسة، وكما أرادها المسيح نفسه. فالكاهن ليس موظفًا لمنح الأسرار، واجبه التحدّث “عن” الله والقيام بخدمة إجتماعية. بل هو “رجل الله” (Vir Dei) الذي “يعيش الأسرار” وهو يمنحها، ويتحدث للناس عن ثمرة حديثه الشخصي “مع” الله وحديث الله مع الكنيسة ومن خلالها اليوم كما في الأمس. يحدّثهم ما هو من لدُنِ الله. حينها فقط تكون خدمته ذات اللون الإجتماعي أيضًا “خدمة كهنوتية”. كذلك فإنه ليس من المستهجن أن يجد الكاهن في احدى الروحانيات الكثيرة أو الجماعات داخل الكنيسة، غذاءً لحياته الروحية وحاجته إلى “عائلة روحيّة”؛ إخوة يبادلهم الثقة، ويشعر في رفقتهم بالإطمئنان والفرح والتحفيز.   

لعلّ هذا المقال، الذي يتناول أهمية التأمل في حياة الكاهن، على ضوء الروحانية الكرملية، أن يجيب على الرغبة العميقة التي تختلج الكثيرين من الكهنة والإكليريكيين بل والمؤمنين الذين يبحثون عن كهنة قدّيسين.

                                                                             الإكليريكي فراس عبدربه                                                                       المعهد الإكليريكي لبطريركية اللاتين في القدس

الكاهن والصلاة العقليّة أو التأمّل[3]

إنّ ما كان يُقلِقُهُ (الأب ماري أوجين) جدًّا هو الوهمُ الذي وجده لدى البعض بأن الكهنوت مُوجَّهٌ فقط صوب العمل، دون غذاء روحي. وقد تبيّن له أنَّ ٱعتقاد البعض بأنّ نعمة الكهنوت وحدها تكفي لممارسة الخدمة الكهنوتية، هو هُراء. إنّ إهمال الصلاة التي من شأنها أن تُغذّي نعمة العمّاد، يحرم سرّ الكهنوت من قاعدته المتينة، وتكون النتيجة هي الجفاف الروحي والإنهيار. لقد عرفَ الأب ماري أوجين هذه الفترة المضطربة من تاريخ الكنيسة، في الخمسينيات والستينيات، عندما أصبح الذوق العصري يميل إلى العمل الراعوي كأنَّه الشكل الوحيد للخدمة الكهنوتية، وأصبح يُنظَر إلى التأمل على أنه هروب تقوي على حساب العمل الراعوي.

تتميز وجهة نظر الأب ماري أوجين بالبساطة، وهي على النحو التالي: إنّ نعمة العمّاد هي القاعدة التي يرتكز عليها سرّ الكهنوت. وإن خصوبة الكهنوت مرتبطة بقداسة الكاهن، وخاصّة محبّته التي تنبع من نعمة العمّاد.

ما يقترحه الأب ماري أوجين إذًا هو معرفة يسوع، الراعي الصالح، معرفةً تأمّليّة:

“إن جميعَ هذه الإستعدادت الكامنة في عمق ربّنا تعنينا بلا شك، ويجب أن تكون موضوع تأملنا. علينا أن نتّصل بالمسيح وأن نحاول ٱلتقاط ٱستعداداته هذه. أن نجعلها ٱستعداداتنا نحن أيضًا. أن نجعلها حيّة. أن نأخذها نوعًا ما منه بالمناولة والقداس والتأمّل الذي يليه أو يسبقه[4].”

يجب بصورة تدريجية أن يتحقق هذا التشابه التام بين الكاهن والمسيح:

“إنّه هو قوُّتُنا، ومنذ اليوم الذي كرَّسَنا فيه كهنةً، يتوقُ إلى أن يحوِّلَنا إليه بكلِّ كياننا. يا له من ٱنتصار للمسيح حين سيمتد ملكوته “الكهنوتي” إلينا بالتمام، وحين ستخضع كلّ نشاطاتِنا وقدراتِنا له بالكامل، وحين نغدوا قادرين على أن نقول معه: أنا الراعي الصالح. لم نعد إثنين، بل واحد. هو ونحن بعدما أصبحنا أشباهه تمامًا”.

هذا ما يريده الربّ منّا ولا شك. يريدنا أن نكون كهنة بالتمام، وبهذا المعنى العميق. فماذا يجب كي يتم ذلك؟ يقول الرَّبّ: “خرافي تعرفني”. يجب على هذه الحقيقة أن تظهر فينا؛ أن نعرف المسيح[5]“.

تتحقق معرفة المسيح والإرتباط الحميم به من خلال “المكوث معه”، والمواظبة على التقرُّبِ منه. أمّا الوسيلة المقترحة لذلك فهي التأمّل. عبّر الأب ماري أوجين بٱستمرار عن قناعته بأهمية تأسيس نعمة الكهنوت على نعمة العمّاد المتطورة بٱستمرار. ويتم ذلك بالنسبة له من خلال الإلتزام بالتأمل والعودة إلى الخلوة في فترات محدّدة.

“يتطلب الكهنوت كي تتم ممارسته على أكمل وجه أن تتطابق هوية الكاهن مع هويّة المسيح الكاهن والضحيّة. من المؤكد بأنَّ ممارسة الموهبة الممنوحة يُأمِّنُ للمحبة غذاءًا ثمينًا لا يمكن تجاهل قيمته. وبطبيعة الحال، فإنّ هذا الغذاء ليس كافيًا. فالمحبة تتفجر من حضن الله. وعلى الرسول أن ينطلق نحو ينابيع هذه الحياة الإلهية، ألا وهي الأسرار. لكنه لا يستطيع الإكتفاء بذلك. فكونه صديقًا لله، يُحتّم عليه أن يقف بٱستمرار في حضرة “الزائر الداخلي” الذي ينشر هذه المحبة في نفوسنا. الكاهن هو أداة ٱختارها الروح القدس. هو وكيل الأعمال الإلهية وباني الكنيسة، وهو لا يستطيع أن يقوم برسالته كما ينبغي إلاّ متى حافظ على هذا الإرتباط الحميم الذي يتيح له قبول نوره وتحفيزاته بٱستمرار. يحتاج الرسول، أكثر من أي شخص آخر إلى الحديث المتواتر مع الله، أي التأمّل، وعليه لذلك أن يجتهد في ٱستيفاء شروط هذا التأمّل الضرورية[6]“.

يروي الأب ريتوري، أول مسؤول عام عن كهنة جمعية سيّدة الحياة، ذكرياته قائلاً:

“يقول لنا الأب [ماري أوجين] (وكانت تلك المرة الأولى التي أسمعه فيها يكلِّمُنا عن ذلك) بأنَّ الوقت قد حان لتنظيم مجموعة من الكهنة، تشبه تلك التي تم تنظيمها في السابق للفرع النسائي من الجمعية. أن تكون لديهم نفس الروح، وذات النظام. لذلك، كان يصطحبنا في كل رياضة روحية إلى مقرّ سيّدة الحياة، حيث نشأت هذه الروح، كي نكتشف شيئًا منها ونصل إلى ذات النتيجة: أي الجمع بين التأمّل والعمل، في روح من البساطة والعُمق. كان يصرّ على أن نذهب لنرى ونستنشق شيئًا من هذه الروح. أصابني الذهول مما يُعاش هناك، دون أن أستطيع منذ البداية التعبير عن ذلك[7]“.

عبّر الأب ماري أوجين بإستمرار عن حاجة الكهنة إلى الحياة الروحية:

“يجب أن نرفع الكهنوت إلى حيث نريده أن يرتفع، إلى درجة عالية من الكمال لا يمكن الإحساس بها على ارتفاع متوسّط[8].”

“إنّ دعوة الإنسان هي دعوة فائقة للطبيعة. وهي تكمن في تطوّرِ نعمته. أنّ نجعل من الإنسان فقط إنسانًا، هذا أمر ينتقص من قيمته. فالإنسان، إذا كان مُعمَّدًا، هو ٱبنٌ لله، وإذا لم يكن مُعمَّدًا بعد فإنّه مدعوّ لأن يكونَ ٱبنًا لله. نهايته هي في الثالوث الأقدس[9]“.

متطرِّقًا إلى المشروع الذي كان يهدف إلى فتح أبواب جمعية سيّدة الحياة أمام الكهنة، أوضح قائلاً:

“إذا كنّا هنا للقيام بأمر ما، كما ٱعتدت أن أقول بأسلوب شعبي، فإنه حتمًا ليس فتحُ “حانوت”، ولا تأسيس جمعية، بل إعطاء قيمة للكهنوت، وتقديم المساعدة للكهنة وجعلهم روحانيين بواسطة ما في الكهنوت من ميّزات، فيصبحون أكثر أهليّة لممارسة كهنوتهم بأسلوب فعّال للنفوس. ليس هنالك أي هدف آخر[10]“.

الخاتمة

ليس بوسعنا سوى أن نتعجّب من شدّة تماسك هذه العقيدة وقوّة هذه القناعات. يبدو واضحًا بأنها رؤيّة من منظور إلهي (يركّز على البُعد العمودي Théologal)، ويضع المسيح في المركز (Christocentrique). المسيح هو كلّ شيء: “بمعزل عنّي لا تستطيعون أن تعملوا شيئًا”. (يوحنا 15: 5). لهذا السبب فإنَّ على الخصوبة أن تتفجّر من الإتحاد الحميم بالمسيح، الراعي الصالح. فهذا الإتحاد ضروري لكل مُعَمَّدٍ كي يصل إلى القداسة. تمنح نعمة الكهنوت السلطات الضرورية للقيام بالخدمة، ولكنها، كما ٱعتاد الأب ماري أوجين أن يقول، لا تصنع القدّيس. يتطلّع الأب ماري أوجين إذًا إلى قداسة الكاهن، وٱنطلاقًا من هناك يستطيع الكاهن أن يصل إلى التشبّه الكامل بالراعي الصالح.

[1]  هذا النص هو ترجمةٌ لجزء من مقال ظهر عام 2010، في العدد 136 من مجلّة الكرمل (Carmel) الروحيّة التي يصدرها الآباء الكرمليون في جنوب فرنسا مرّة كل ثلاثة أشهر. كاتب المقال هو الأب بيير كولونج (كاهن أبرشي ينتمي إلى جمعية سيّدة الحياة (Notre Dame de Vie)، وهي جمعية تتبع الروحانية الكرملية للعلمانيين والمكرسين والمكرسات والكهنة من غير الرهبان أو الراهبات الكرمليين).

[2]  المكرّم الأب الكرملي ماري أوجين للطفل يسوع (P. Marie-Eugène de l’Enfant Jésus, ocd.): ولد في 2 كانون الأول 1894 في الأفيرون، جنوب فرنسا. سيم كاهنًا أبرشيًّا عام 1922، وفي نفس العام ٱلتحق بالرهبانية الكرملية. أسّس عام 1932 جمعية سيّدة الحياة. له كتابات كثيرة في الحياة الروحية، بحسب مدرسة القديسة تريزا الأفيلية، مُصلِحَة الكرمل، ومن أشهر كتبه كتاب “أريد أن أرى الله” (Je veux voir Dieu)، الذي ظهر عام 1949. ٱنتقل الأب ماري أوجين إلى البيت الأبوي في 27 آذار 1967، وأعلنت الكنيسة شجاعة فضيلته عام 2011 كي يصبح بذلك مُكرّمًا.

[3]  تحتل الصلاة العقلية أو التأمل (Oraison)، في التقليد الكرملي، وفقًا لمدرسة القديسة تريزا الأفيلية والقديس يوحنا الصليبي، مكان الصدارة في حياة الصلاة، طبعًا بالإتحاد مع نبع وقمّة هذه الحياة، أي الإفخارستية المقدّسة أو القدّاس الإلهي، حيث مُعطي النِّعَمِ، أي المسيح يسوع، وهو الطريقُ والحقُّ والحياة، يعطي ذاته بكليّتها للمؤمن الذي يبحث عن الله.

[4] Retraite sacerdotale 1964, conférence sur le Bon Pasteur.

[5] Ibid.

[6]  Cf. Je veux voir Dieu, p. 1056.

[7] Souvenir inédit du P. François Retoré, 3 octobre 1989.

[8] 22 août 1961, notes de Raymonde Règue.

[9] Retraite 1959 à Notre Dame de Vie, p. 86 ; cité par E. MICHELIN, « Le Père Marie-Eugène, témoin et maître de la vie d’oraison », Carmel 1988/3-4, n° 51 p.306.

[10] Conférence sur le Curé d’Ars, 8 août 1962, transcription inédite d’enregistrement.

Facebook
WhatsApp
Email