Search

التراث العربي المسيحي القديم

الفصل العشرون

دراسات حول بعض اللاهوتيين العرب

(8) أبو الحسن بن المحرومة

(كتاب “حواشي ابن المحرومة” للمطران حبيب باشا، سلسلة التراث العربي المسيحي رقم 6، 1984).
(نشرة “رعيتي” عدد…).

أبو الحسن بن إبرهيم بن يعقوب بن نختوما الخبّاز بن المحرومة هو كاتب مسيحيّ من ماردين (شمال سورية).

في أي قرن عاش ابن المحرومة؟ يؤكد البطريرك بر صوم انه كان في قيد الحياة في كانون الاول 1296، وذلك استنادا، على ما نظن، الى التاريخ المثبت في “كتاب الورقاء” وهو الترجمة العربي لكتاب “الحمامة” لابن العبري، الذي ترجمه ابن المحرومة. واما جورج غراف، فيذهب الى ان ابن المحرومة كتب حواشيه يقينا قبل القرن الرابع عشر، ولا يورد أي تفاصيل اخرى في هذا الشأن.

ثمة معالم لتحديد الزمن؛ فالحد الادنى هو تاريخ تأليف كتاب “التنقيح”، أي سنة 1280، ومن الواضح ان الحواشي قد وضعت حتما بعد هذا التاريخ. اما الحد الاقصى، فهو التاريخ المدرج في مطلع مخطوطة الانجليكا، أي 2 كانون الثاني 1354, ففي هذا الوقت، ابن المحرومة، هو بلا ريب، في عداد الاموات، بشهادة الناسخ مسعود بن ارجوك الماروني، ال1ي يضم في صلاة استرحام واحدة، صاحب التنقيح ابن كمونة (+ 1284) وصاحب الحواشي ابن المحرومة، سائلا الله ان “يقدس انفسهما وينور ضريحيهما بعفوه ورحمته”.

كل هذا يُعارض رأي غراف الذي يعود بتاريخ كتابة الحواشي ال ما قبل القرن الرابع عشر. هذا ويشير برلمان الذي يَعُدُّ ابن المحرومة “من كتاب القرن الرابع عشر” الى ان مخطوطتين من بين المخطوطات التي تتضمن نص “التنقيح” مصدرهما ماردين، وتعود احداها الى سنة 1341، والاخرى الى سنة 1354. وثمة مخطوطة ثالثة ابتاعها صاحبها سنة 1352. وكل هذا يدعم تاريخ كتابة الحواشي سنة 1333.

هذا التاريخ ينسجم ايضا مع الثوابت التاريخية الاخرى المرتبطة بالنشاط الادبي لابن المحرومة. فالسنة 1290 هي السنة التي نسخ فيها الكاتب بالسريانية “كتاب الحمامة” لابن العبري، كما مر بمت، والخامس من كانون الاول سنة 1299، هو اليوم الذي انجز فيه نسخ مقدمة الترجمة العربية لنفس الكتاب.
استنادا الى هذه الدلالات، يسوغ القول اذن ان ابن المحرومة وُلأد في الشطر الثاني من القرن الثالث عشر، وتوفي في الشطر الاول من القرن الرابع عشر، وكتب الحواشي حوالي سنة 1333.

مذهبه

على الأرجح أنّه كان سريانيّ المذهب، وبخاصّة أنّ مسقط رأسه، ماردين، كان مركز البطريركيّة السريانيّة بعد نزوحها من أنطاكية. ويؤكد صاحب “اللؤلؤ المنثور” انه كان سرياينا. مع انه في الواقع ومن خلال قراءة نص الحواسي لا تُتيح معرفة مذهب صاحبا، وقد عمد في اسلوبه الدفاعي الى الطريقة المتبعة عموما عند الكتاب المسيحيين آنذاك في مناظراتهم مع غير السيحيين، وهي اعتماد البراهين المشتركة بين جميع الفرق المسيحية، ومحايدة ما يُستم منه التزام بمذهب معين.

وقد اعان ابن المحرومة طريقته هذه في احدى حواشيه: “على اني لا التزم رضى جميع فرق الملة النصرانية، لكني التزم رضى النصرانية مطلقا لا عير…”. (حاشية 91 ب). وقد وفى ابن المحرومة بوعده، وظل سالكا في نهجه، فما بدر منه ما يُثبت ارتباطه بمذهب معين من المذاهب المسيحية. الا ان عناك قرائن يمكن اعتمادها لترجيح نسبته الى الكنيسة السريانية. بيد ان تعابيره اللاهوتية هي اقرب الى العقيدة الخلقيدونية منها الى المذهب الاوتيخي. فهو يأبى القول بامتزاج الطبيعتين في السيد المسيح، ويوافق النصارى بجميع طوائفم، على ان السيد المسيح إنما ساوى الناس بناسوته في جميع احوالهم ما عدا الخطيشة. (حاشية 106).

نشاطه الادبي

أتقن أبو الحسن اللغتين السريانيّة والعربيّة لغةً وخطًّا. واشتُهر أيضًا بكونه صاحب الردّ على كتاب “تنقيح الأبحاث للملل الثلاث”، الذي وضعه الفيلسوف اليهوديّ البغداديّ ابن كمّونة عام 1280. وأغلب الظنّ أنّ أبا الحسن كتب ردّه، المعروف بـ”الحواشي”، على ابن كمّونة ما بين عامي 1333 و1340.

كتاب “الحواشي”

تتألّف الحواشي من 133 حاشية كتبها ابن المحرومة للردّ على مزاعم الفيلسوف اليهوديّ الذي لم يتجرّد من تعصّبه لبني ملّته، فشكّك في المسيحيّة والإسلام. يتولّى أبو الحسن في حواشيه الطعن في اليهوديّة والدفاع عن المسيحيّة. فيبدأ بالنيل من سيرة اليهود وأخلاقهم، ويعتبر أنّهم منذ فجر تاريخهم وعبر أجيالهم متَّهمون بالكفر بربّهم وعصيان أوامره والتنكّر لمعجزاته والانجراف وراء الأوثان والأصنام. ويعتبر أيضًا أنّ كثرة “التكاليف” (أي الشرائع) “إنّما تحتاجها الأنفس الشرّيرة التي تمكّنت منها الأخلاق الرديئة”. ولو كان اليهود صالحين لما كان الله زاد من التكاليف، ولكن لسوء طباعهم قيّدهم بالنواهي الواردة في التوراة. لذلك، يقرّر ابن المحرومة أنّه من نِعم الله على البشر أنّه أراحهم من حمل أثقال الشريعة الموسويّة.

يلجأ أبو الحسن في دفاعه عن المسيحيّة إلى الطريقة المتّبعة عند عموم الكتّاب المسيحيّين في مناظراتهم مع غير المسيحيّين، يهود ومسلمين، وهي اعتماد البراهين المشتركة بين حميع الفرق المسيحيّة، والابتعاد عن كلّ ما يشتمّ منه التزامٌ بمذهب معيّن. لذلك تحاشى بكثير من الحنكة واللباقة مواقع الخلاف بين الفرق المسيحيّة. وهو ينتهج أيضًا أسلوب التشكّي من خصمه والتبرّم بجهله والتنديد بتعصّبه، والتظلّم من تحيّزه وتغرّضه، ويجهد في الذود عن معتقده المسيحيّ بطرائق شتّى لا تخلو أحيانًا كثيرة من التهكّم والسخرية.

ثمّة ثلاث مسائل رئيسة استقطبت محور الحواشي، وهي:

1- نقض السيّد المسيح للشريعة الموسويّة

ففي نظر أبي الحسن أنّ السيّد المسيح عندما قال: “إنّي ما جئت لأنقض التوراة ولكن جئت لأتمّمها”، إنّما عنى النقض لا للهدم ولكن لإعادة البناء. وذلك أنّ المسيح لم ينقض الشريعة الموسويّة إلاّ لتتميمها بإضافة ما أغفلته من شؤون الصوم والصلاة والبعث والمجازاة الأُخرويّة. فالذي يهدم جدارًا، على حدّ قوله، ليبني فوقه لا يدعى ناقضًا بل متمّمًا. ولا يغفل أبو الحسن من التذكير بإلغاء السيّد المسيح فريضة السبت، فيقول: “فإنّ أعظم ما شنّع عليه اليهود كان حلّ السبت، لإنّه في سبوت متفرّقة فتح عيني الأكمه وأبرأ يد الأشلّ وأقام المحلَّل الذي كان ملقىً منذ ثلاثين سنة، وأمره بحمل سريره”. ويعتقد أبو الحسن أنّ “السيّد المسيح لو تمسّك بفرائض التوراة لما كان لليهود إلى قتله من سبيل”.

2- حقيقة المعجزات المنسوبة إلى السيّد المسيح و”أصحابه”

أمّا المبحث الآخر الذي يتناوله أبو الحسن، أي حقيقة المعجزات المنسوبة إلى السيّد المسيح و”أصحابه”، فسببه ادّعاء الكاتب اليهوديّ أنّ معجزات النبيّ موسى أعظم وأقلّ تعرّضًا لشبهة الحيلة والتواطؤ من معجزات السيّد المسيح. ومن غير أن يطعن ابن المحرومة في معجزات النبيّ موسى، نراه يؤكّد على أنّ معظم معجزات السيّد المسيح قد تحقّقت بمشهد من المقاومين والمعارضين، وأنّها “عمّت في الأصقاع أضعاف ما عمّته معجزات موسى”.

3- الدفاع عن التثليث والتأنّس

وفي عقيدة التثليث، يجتنب أبو الحسن، في الدفاع عنها، الخوض في تفاصيلها اللاهوتيّة، إذ يعتبر أنّ المسيحيّة تشتمل على وجوه من المعتقد تتجلّى فيها “حكمة الله الخفيّة عن عقول العقلاء من البشر، بل عن الملائكة المقرَّبين”. أمّا وحدة الجوهر الإلهيّ فهي معتقد مسيحيّ “يجتمع عليه جميع النصارى على اختلاف فِرقهم”. ويؤكّد أبو الحسن على ألوهة السيّد المسيح، وذلك ردًّا على ادّعاء ابن كمّونة بأنّ موسى أعظم شأنًا من المسيح “لأنّ الله كلّم موسى مرارًا لا تحصى، ولم يكلّم ولده وحبيبه إلاّ مرّة واحدة”. على هذا يجيب أبو الحسن قائلاً: “إنّ المخاطبة تكون لمن بينه وبين المخاطَب حجابٌ يستر عنه الأمر المخاطَب به. ونحن لا نعتقد أنّ بين السيّد المسيح وبين الله حجابًا، وإلاّ لتكرّرت المخاطبة مرارًا عديدة”.

يبدو أبو الحسن ابن المحرومة من خلال حواشيه على نصّ “التنقيح” للفيلسوف اليهوديّ ابن كمّونة بارعًا في الجدل وصياغة البراهين والحجج والأدلّة وقوّة المنطق، ويبدو أيضًا أنّه عالم بالكتاب المقدّس بعهديه العتيق والجديد وبالتفسير. ومع أنّه مارس في أحيان كثيرة التهكّم والسخرية من آراء خصمه المتوفّى حين كتب ردوده، غير أنّه يخلد، في الخاتمة، إلى الهدوء في مخاطبة خصمه، فيقول: “يجب علينا، نحن معشر النصارى، أن نسأل الله تعالى في غفران ما بدا من هذا الرجل في حقّنا وبما أكال علينا وغالطنا في كتابه هذا”.